في رواية “لو أن مسافراً في ليلة شتاء” لإيتالو كالفينو، كما في فيلم “الموتورات المقدسة” ليو كاراكس، ينتقل المتلقي بين الفصل والآخر، أو بين المشهد والآخر، ليكتشف في كل مرة أنه لم يصل بعد إلى الحدث المركزي للسرد. تتراكب الفصول والمشاهد فوق بعضها البعض بنيوياً، ليختفي الحامل السردي الأساسي، ويصبح العمل الفني عبارة عن تراكم فصول أو مشاهد ببنية هرمية، لكنها ليست خطية. في رواية غسان الجباعي الصادرة حديثاً “قمل العانة”، يكتشف القارئ أن ما اعتقده الفصل الأول، هو كابوس في رواية تكتب في الفصل الثاني، والذي سيكتشف القارئ أنه ليس إلا فصلاً أو نقاشاً أو مسودة حول رواية تبدأ في الفصل الثالث. هذه البنية يطلق عليها الروائي غسان الجباعي البنية التفوقية بين الفصول، حيث يحمل كل فصل جديد معلومات ووضعية متفوقة سردياً على الفصل الذي سبقه ويدفع القارئ إلى إعادة التفكير في ما قرأ.
الروايات التي تتبع هذه البنية الهرمية التفوقية، وتظهر في أدب صموئيل بيكيت وبول أوستر بشكل جلي، لا تلعب مع القارئ لعبة البحث عن حدث السرد الأساسي ووضعية كل فصل داخل بنية الرواية وحسب، بل أيضاً تفتح الأسئلة عن هوية الرواي التي تتغير مع كل فصل جديد، مما يخلق تعدد الرواة داخل النص، ويلعب المتلقي دوراً في كشف هوياتهم. ما يضيفه غسان الجباعي في روايته الحالية، هو جعل الساردَين الأساسيَين رجلاً وامرأة، مما يفتح على أسئلة الذكورة والأنوثة، وكيف يروي كل منهما الآخر أدبياً. كيف يبني الكتاب الرجال الشخصيات النسائية في أدبهم؟ وما اللغة والقاموس اللغوي الرائج المستعمل من قبلهم في وصف المرأة؟ وكذلك العكس، ما الصورة النمطية المرسومة للرجولة في النصوص الأدبية النسائية؟
الذكورة والأنوثة في المنتج الأدبي
في مسرحيته “حبك نار”، يسمح الكاتب مضر الحجي، للشخصيات، بمساءلة مؤلف المسرحية عن ميزاتهم وخصائصهم التي أسبغها عليهم، عن الأسباب التي دفعته إلى تحديد شخصياتهم أو رسم مصائرهم بهذه الطريقة أو تلك. في رواية “قمل العانة” تسأل الشخصية التخييلية، هند، مؤلفَ الرواية: “لماذا تكتب عني؟ وماذا ستكتب؟ كيف تجرأت على وصف صدري بالذابل؟ هل رأيته؟ هل لمسته؟ أنا امرأة بلا صدر يا سيدي، ثديان وحلمة واحدة، ربما كنت ترغب في رؤيتي عارية. أهذا ما تريد؟ هل ترغب في ذلك حقاً؟ هل تشعر بمتعة ما، وأنت تصفني كيف أتلمس أعضائي وأغمض عيني؟”. وتقارب هذه الشخصية في آرائها بين فعل الكتابة والمتعة الجنسية: “لن تستطيع الكتابة لو لم تكن وحيداً. الكتاب يحبون الأقبية، معتكفون، غرباء، أنانيون، أشقياء، يمارسون نزواتهم بأحرف وصور مبهمة مشوشة. إنهم يشتهون ويحلمون، فيكتبون، كي يمارسوا شبقهم على الورق، أو يداعبوا بأصابعهم لوحة المفاتيح في حواسيبهم مداعبتهم لأزرار العاهرات”. بينما يذكرها الكاتب: “كل منا يكمل الآخر، وما من خطيئة، صدقيني. من ذا الذي اخترع الخطيئة ونسي الخطأ؟ نحن مجبولون على النقص حتى نكتمل، النقص مجدنا وخلودنا. أجسادنا خلقت عائبة، وكل جسد يحتوي عيب الآخر من دون احتواء. لا وجود لذكر وأنثى في السليقة والإبداع. فالطبيعة أنثى، وكلاهما نسخة عنها. سننتظر كثيراً حتى نتشابه، ربما بضعة عقود، وربما يجب علينا أن ننتظر الموت، ليس موتك أو موتي، بل موت الحكايات”. إذاً، هي الحكايات هي الأدب يكرس في طياته هذه الفوارق بين الجنسين أو يمنعهما من الإتحاد.
من بين الحوارات التي تجري في الرواية عن الأدب، تتطرق “هند” إلى ما تراه عيوب الأدب العربي؛ الخوف، قلة المصداقية، والمركزية الذكورية: “معظم الكتاب العرب تافهون، مع احترامي لك ولهم، لديهم عقدة اضطهاد مزمنة. لم يحدثوا فرقاً كبيراً لا في الأدب ولا في الفكر ولا في السياسة”. تقسو الشخصية الروائية في تقييمها للأدب العربي: “كيف يمكن للصغار أن يكتبوا أفكاراً كبيرة، عن الوجود، والمرأة، والحرية والجمال؟ المرأة في نظرهم، عاهرة ملعونة، أو طاهرة منزهة، مقززة ومشتهاة وفاتنة، في الحقيقة والحلم، وفي الأحوال كلها، ليست شريكاً بل تابعاً”.
فن يناقش فناً
“قمل العانة” الغنية بالحوارات حول فن الرواية، تزخر أيضاً بحوارات وتأملات حول الفن التشكيلي. فتفتتح الرواية بحكايات عن الفن السوري في ظل الحرب، فاللوحات في الأقبية المعتمة بعيداً من العيون خوفاً عليها من التدمير والسرقة، صورة رمزية كناية عن الدمار الذي طاول الإنتاج الفني السوري عبر السنوات الطويلة من الحرب. لكنه دوماً كان من الممتع قراءة الأفكار الفنية عن فن اللوحة عند الروائيين، فاللوحة في هذه الرواية هي: “كائن حي يكفي أن نجرحها حتى يسيل منها الدم. وهي كلام مطلي بالألوان، حلم كثيف لريشة رقيقة أو أصابع دقيقة أو سكين مرهف، ينسجها كائن، قريب من الله، يقلد آياته، ليراها الكافرون والحالمون والمتطفلون”. وفي تأمل آخر عن الفن تقول إحدى الشخصيات: “لا يكون الفن حقيقياً إلا إذا كان عملية هتك وكشف وزنى، لا يكون الفن حقيقياً إلا إذا كان عارياً، الثوب اعتداء على الطبيعة”.
أما أثر الدمار والحرب على الفن، فنلتمسه حين يروي لنا الفنان أحلامه: “منذ وقت طويل لم أر أحلاماً ملونة، باتت أحلامي كلها بالأبيض والأسود، وفي أفضل الأحوال يهيمن عليها لون واحد هو الرمادي أو الأصفر العكر”. وتزخر الرواية بتأملات حول لوحات أعمال دافنشي وبيكاسو.
الطفولة النامية في المعتقلات
ما يميز “قمل العانة” عن الروايات والأفلام المركبة بالسرد الذهني، أن تلك الروايات لطالما تناولت موضوعات فلسفية أو فنية، من دون الولوج إلى ما سيأخذه إليها صاحب “المسرح في حضرة العتمة”، لأنه نادراً ما تضمنت الرواية أو الفيلم المفاهيمي موضوعة مثل الاعتقال السياسي، ممارسات التعذيب وأنواعه، والغوص عميقاً في جرائم الاغتصاب الممارسة في سوريا. وربما، تكون هذه الميزة سمة الأدب السوري في المرحلة الراهنة، الذي ينهل من تقنيات السرد القديمة والحديثة ويضفي عليها موضوعاته المستجدة كالموت، الاعتقال والتعذيب: “كان يجب أن أموت، لأني فقدت إنسانيتي، تمكنوا من إذلالي وكسر إرادتي وكرامتي، خلال بضع أيام وليلة، ملأت فرع التحقيق العسكري بصراخي الهستيري، وشحذت منهم الشفقة والرحمة. جريمة التظاهر للحرية، لم تعد تكفيهم، اعترفت لهم بجرائم لم أرتكبها وجرائم أخرى أنوي ارتكابها في حياتي. لو أستطيع الآن إيقاف قلبي عن العمل، لفعلت. لو أستطيع ثقب رئتي أو دق عنقي بيدي، لكان ذلك أفضل طريقة للموت الذاتي الهادئ، لكن أعضاءنا الغبية بلا أخلاق أو رحمة، تعمل من دون إرادة منا، ولا تشعر بالخجل أو الذل مثلنا”.
الوباء المتنقل بالخطيئة
نتابع في الرواية حكاية طفل يولد في المعتقل، إنه الجيل السوري الراهن، فالصورة الرمزية للطفولة المسجونة تعبّر بدقة عن جيل يولد تحت القمع الديني والعسكري: “طفل حقيقي معتقل، طفل من لحم ودم، عاش على الماء والسكر وفتات الخبز. فرج الله الحزين صار اسمه. أصغر معتقل على وجه الأرض، لقيط مكتوم النسب، لا أحد يعرف أباه ولا أمه. كان الحراس ينادونه عرسا”. الجيل السوري التائه بين ثقافتين، ثقافة القامع وثقافة المقموع، لغة العنف ولغة الضحية: “لم يكن يعرف كلمة عمو أو بابا، وحدها لفظة آبه كان يشير بها إلى الجلادين، ثم راح يردد لغتهم، فلا يحفظ غير الشتائم وعبارات الزجر والتحقير: ولا، حمار، حقير، عرصا، منيك.. أو لغة الضحايا والمعذبين: لا، دخيلك، ما دخلني، حاضر سيدي”…
“قمل العانة” يحضر في الرواية مرتين، المرة الأولى في لوحة مرسومة لجسد ذكوري لكنه يمتلك عضواً جنسياً أنثوياً، ذلك أن الرواية طافحة بالتحولات الجسدية بين الذكورة والأنوثة والتحولات الجسدية بين الجمالي والمشوّه المعذّب والميت. أما المرة الثانية، ففي الحكاية الأخيرة للرواية التي تتابع ممارسات القمع من طرف الجلاد، وتصف بدقة التعذيب الذي تقوم به شخصية الجنرال. تدخلنا الرواية في دهاليز الأجهزة الأمنية، وإلى أقبية المعتقلات، ويأتي قمل العانة حين تكتشف زوجة الجنرال وجوده في جسدها في دلالة تصل أخيراً إلى ممارسات الاغتصاب الممارسة على المعتقَلات والتي شارك فيها الجنرال. ليصبح قمل العانة المنتشر هو وباء العنف في جسد المجتمع.
(المدن)