علاء رشيدي: فواز حداد في “صورة الروائي”: الأسلوب الأدبي هوية الكاتب أمام القرين

0

من العنوان يهيّئ الكاتب (فواز حداد) لعبة مرايا الكاتب وهويته، فـ(صورة الروائي) هي التي يثبتها العنوان وليس الروائي نفسه. يكتب الناقد الفرنسي (أندريه غرين) في المقدمة التي ترافق رواية (القرين، فيودور دوستويفسكي) في النسخة التي نشرتها دار (غاليمار) العام 1980: “كل أديب هو متعدد الهوية، فهو أولاً تلك الشخصية المسجلة في الأحوال المدنية، كما نعرفها في الحياة العامة والخاصة، وثانياً هناك هوية المؤلف، ذاته كمؤلف، والتي لا تظهر لنا إلا عبر أعماله الأدبية. كذلك تتعدد الهويات بين المؤلف والسارد، بين الكاتب وشخصيات رواياته”. لكن هذه الهويات المتعددة لا تكون دوماً موضع جدل، إلا حين يختار العمل الفني أن تكون هذه الازوداجيات موضوعته، فتصبح عملية الكتابة بحد ذاتها، هي عملية توليد للهويات والذوات”.

القرين من قعر العدم

إن (صورة الروائي) واحدة من الأعمال الأدبية التي تجعل من هويات الكاتب موضوعةً لها، هذه الموضوعة التي غالباً ما يتم الكتابة عنها تحت عنوان (الشبه، القرين، المُثل، المزدوج)، هذه المترادفات هي التي اختارها المترجمون العرب كعنوان لقصة (فيودور دوستويفسكي) (Le Double)، وهي من أكثر الأعمال الأدبية شهرةً في معالجتها للموضوعة، والشخصية الرئيسية فيها (غوليادكين) لا يقل شهرةً عن باقي شخصيات دوستويفسكي الأدبية. فقد كتب دوستويفسكي في إحدى رسائله: “أنا غوليادكين تماماً”. افتتاحية رواية دوستويفسكي ترسم لنا العالم الذهني والنفسي لـ(غوليادكين): “حين استيقظ من النوم تداخلت عليه أضغاث الأحلام والواقع الحقيقي من حوله، أهو الحلم أم اليقظة؟”، وأول ما يقدم عليه هو التوجه إلى المرآة، يفكر بدايةً بأن أحداً لا يهتم بهذا الكيان المنعكس أمامه في المرآة، ومن ثم تنتابه فكرة أخرى: “فلماذا لا يكون ما يفعله هذا الصباح هو محور اهتمام العالم بأسره؟”. فينتقل من قمة العدم إلى مركز العالم.

وفي زيارته للطبيب (كريستيان إيفانوفيتش) يخبره بأنه يعاني من بعض الهلوسات العصابية. كل ذلك يهيأ للحظة للقاء (غوليادكين) بقرينه، بظهوره له مباشرةً، يتجسد أمام (غوليادكين) قرينه بحضور فيزيائي مادي، وطبعاً ما سيترتب عليه تبعات نفسية وذهنية. لكن هذا الظهور الأقرب إلى الفانتازي، أو المافوق واقعي، يهيأ له (دوستويفسكي) بين الهلوسات الداخلية لـ(غوليادكين)، وبين الغاية السردية التي تحمل المقولة. ما يصدم (غوليادكين) أن ظهور قرينه لا يثير أية دهشة عند زملائه في العمل، وحتى معارفه لا يبدون مندهشين من حضور البديل. لا أحد يستغرب أن يكون لـ(غوليادكين) نقيضاً، ما يلبث هذا النقيض بعد ظهوره أن يحل محله، ويعزل (غوليادكين) الأصل عن المجتمع بالكامل، ويحوله إلى منفي. ظهور القرين هو الذي سيقود (غوليادكين) إلى كل الصعوبات التي ستقوده إلى مصير النفي والاغتراب، وتجريب العدم. يكتب (دوستويفسكي): “السيد غوليادكين لا يتمنى فقط الهروب من نفسه، ولكن يتمنى أن ينعدم وجوده تماماً، ألا يكون من بعد، أن يتحول إلى غبار”. إن الرغبة بالعدم هي السبب الأول لظهور القرين- النقيض.

القرين للمقارنة والمنافسة الأدبية

يستغرق (فواز حداد) في توصيف نوع القصص التي يكتبها الروائي- السارد في الرواية، ذلك لأن (صورة الروائي) هي بالدرجة الأولى رواية عن الرواية

في (صورة الروائي) يتوجه السارد، مجهول الاسم، إلى أستاذه في مادة التاريخ (صباح قدوري) وذلك للحصول منه على معلومات تاريخية تساعده في كتابة روايته. يُعرف عن نفسه بكاتب القصص: “قصص عن الناس عن مشاكلهم العاطفية ومآسيهم، في قصصي غاية يتوخاها الكاتب، فيما لو تلقطها القارئ، فسوف يجدها ممتعة. عبرة، إنها أشبه بمغزى”. ويستغرق (فواز حداد) في توصيف نوع القصص التي يكتبها الروائي-السارد في الرواية، ذلك لأن (صورة الروائي) هي بالدرجة الأولى رواية عن الرواية، رواية تمتلئ بالنقاشات حول الأنواع الروائية، وكيفية صنع الرواية؟ ومهمة الكاتب وهويته: “أطمح إلى كتابة رواية هي خليط من العواطف المتأججة والمشاعر المتباينة والأهواء المتناقضة، تحركها طموحات شتى وتحبطها أحداث سياسية تتداخل مع مآسي فردية”، ويصف في موضع آخر قصص الكاتب بطل القصة: “كانت قصصه تدور في غرف خانقة وأزقة معتمة، أبطالها موظفون وأساتذة علوم وفلسفة، يخالج نفوسهم شيطان يوقظهم بعد سبات طويل وعميق، فينقمون على سني عمرهم التي أضاعوها سدى، ويكابدون مرارة البقاء على ما هم عليه من حياة مزيفة. ولكنهم لا يقنعون، بل يفتشون عن غاية لحياتهم ومبرر لوجودهم، وهناك من يقتل نفسه عمداً وقسراً، بتحطيم روحه ليجد انتصاره في موته طواعية”.

لكن الراوي ما يلبث أن يكتشف أن كاتباً آخر يتردد أيضاً على مدرس التاريخ للحصول على معلومات بغاية كتابة رواية أيضاً، يكتشف وجوده من ظهور ورقة مكتوبة بخط يده: “هناك شخصان أنا الذي كتبت اسمي على الورقة، ثم الشاب الذي جاء من بعدي، وكتب اسمه على الورقة نفسها. دفعتها إليه مشيراً، هذا اسمه، وإلى قفاها، وهذا اسمي، وكما ترى الخطان مختلفان تماماً”. وكما نرى، فإن الشخصية الرئيسية ليست منعزلة أو عدمية، بل هو كاتب فاعل، ويرغب بالكتابة والبحث لتحقيق نصوصه. فظهور القرين هنا مختلف عن عدمية (غوليادكين)، يظهر القرين في (صورة الروائي) لأجل مناقشة خيارات الأدب والكتابة، إنه يبدو كحاجة يبتكرها الكاتب ليختبر احتمالات السرد.

المعادلة المفروضة، نقيضك أمامك.

في البداية، وكما في (المثل، دوستويفسكي)، يرفض السارد في (صورة الروائي) أن يكون له شبيه أو قرين، يقول: “ليس الأمر بهذه البساطة، أن يأتي شخص ما ويتظاهر بما يخصني، منتحلاً مدرستي وحارتي وكتابة الرواية، ثم يأتي الأستاذ ليبرر لي ولنفسه”. لكنه ما يلبث أن يكتشف أنه دخل في معادلة الأنا والآخر: “لم أدر أنني قد أصبحت أسير معادلة، طرفها الأول (س) المجهول، وطرفها الثاني (أنا) المعلوم، وهذه المعادلة لن تكون متكافئة على الدوام”. كذلك في رواية (دوستويفسكي) يحاول (غوليادكين) أن يكره قرينه، لكنه ما يلبث يحبه. وتتحول هذا العاطفة إلى إحالات من العاطفة المثلية، والقرين لا يتوقف يناديه بـ “حبيبي الغالي”، خصوصاً في تلك الليلة التي يقضيانها معاً. كلاهما يحاول أن يرفض بدايةً، لعبة ظهور القرين في حكايته، لكنه يجد نفسه داخل معادلة حتمية، طرفاها الأنا والآخر، الكاتب السارد والكاتب القرين، الأصل والشبيه أو المُثل.

ويجب التذكير أن ما يميز مفردة، قرين، عن الشبيه أو المثل، أنها تحمل معنى النقيض للأصل، القرين هو النسخة النقيضة عن الإنسان. القرين الذي يظهر في رواية (دوستويفسكي) هو نقيض الشخصية الرئيسية (غوليادكين)، إنه يمثل تماماً ما يعاكس شخصية (غوليادكين)، يجسد كل ما لا يرغب به، كل ما يهرب منه ولا يحبذه. وحينما يحاول (غوليادكين) أن يحمي نفسه بارتداء قناع يخفي فيها سماته عن الآخرين حتى لا تتم المقارنة، يبدأ (غوليادكين) بالغياب والعزلة. يكتب (أندريه غرين): “القرين هنا هو قرين مطلق، ليس القرين المحدد لغوليادكين، وإنما بديل يجسد مفهوم القرين بالمطلق”.

كذلك في (صورة الروائي) يقول الراوي عن ظهور البديل: “لقد شطرني إلى شطرين إلى شخصين غير مقنعين، وغير متمايزين بما فيه الكفاية، صوت وصدى”. يبدأ التواصل بين الكاتب والقرين عبر الرسائل: “لقد عزمت قبل تسطير رسالتي على أن أجد وسيلة للتفاهم معك وليس للتعرف عليك، وعثرت عليها في أسلوب تبادل الرسائل فيما بيننا، وما أرجوه من مراسلاتنا القادمة ألا نضيع الوقت بأسئلة تتناول شخصياتنا، ولنتفق منذ البداية على ألا تسألني أو أسألك”.

الأسلوب الأدبي للتمايز عن القرين

في البداية الرفض، ثم تبدأ محاولات التمايز عن القرين، في (صورة الروائي) يصبح التمايز مسألة أسلوب في الكتابة ورؤية في الأدب، لأن كلا القرينين هما في صدد كتابة رواية، وكلاهما يطرح تساؤلات عن الأدب وفن الرواية. يقترح القرين على الكاتب، أن يتعارفا في البدء من خلال روايتيهما، بعد ذلك ممكن اللقاء إذا بدا ضرورياً: “لم أقبل ولم أرفض، كنت قد فهمت إشارته على النحو الذي أرسلها إلي، وليس على النحو الذي سمعته، منافسة روائية نحن طرفاها”. ثم ندرك أن كلا الكاتبين، الأصل والقرين، يكتب عن شخصية تخييلية واحدة، هي باسم (عبد السلام التفني) بطل كلا الروايتين: “ما يلمح إليه، هو أن عبد السلام ليس شخصيتين منفصلتين، بل شخصية واحدة تتنازعها روايتان”.

عبر التنافس للتمايز بين الكاتب والقرين يأخذنا المؤلف (فواز حداد) في رحلة جدل حول أساليب الكتابة وأنواع الرواية: “إننا لسنا الكاتب ذاته وبمهارات متفاوتة، بل مؤلفين اثنين بنوايا وأهداف متغايرة، وإن كان هناك واقع يبغي كل منا نقله إلى عالم الرواية، فما نحن إلا مترجمين لكتاب واحد، نختلف في قرائته وفهمه، قد تتشابه أذواقنا ومفرداتنا لكنها لن تتطابق، حتى لو كان قاموسنا في التقرب إلى الواقع واحداً”. في حين يميل الكاتب إلى الرواية البحثية التوثيقية: “الأسلوب الذي انتهجته في عملي، أقنعني بمدى ابتعادي عن س، فبينما أمتح روايتي من الأخبار والصور، يمتح س روايته من الخيال”، بينما يميل الكاتب النقيض إلى التخييلي: “أنا معك في أن الوثيقة دالة وغنية، لكنها مادة سيئة فيما لو اقتصرنا عليها، قليل من الخيال ينفع، والكثير منه له محاذيره عدا مخاطره، وهي تجربة يخشى بها على الكاتب العبث بها والانزلاق فيها، ودون وعي منه يصبح لبطله كينونته الخاصة، ولا يعود بمقدوره التحكم به”.

يعتبر (ميخائيل باختين) أن مجرد حضور تقنيات المونولوج الداخلي في الرواية، وحضور السرد البوليفوني، يحتم ذلك بتشكيل البيئة الأدبية الملائمة والمنطقية لظهور القرين وذلك مع تعدد مستويات السرد في الرواية الحديثة، لأنه يسمح بالولوج إلى الأفكار الداخلية للبطل، حيث أمكن للقارئ قراءتها في النص. ويعتبر (أندريه غرين) أن الأدب حينما عالج هذه الموضوعة وضعنا أمام حتمية انقسام الذات الإنسانية، وأن ظهور القرين في الأدب أنهى تاريخ الشخصية المتكاملة كما كنا نعرفها في المسرح الكلاسيكي مثلاً: “إن احتمالات تعددية انقسام الشخصية التخييلية، وظهور القرين، يعني إمكانية انشطارها إلى قرائن لا نهائية، إن هذه القصة تهدد كامل مفهوم وجود شخصية متكاملة ومتماسك. إنه مفهوم الهوية المهددة بالعدم من جانب وبالانقسام اللانهائي من جانب آخر”، أما على المستوى الوجودي والنفسي، فيتابع (أندريه غرين): “القرين يبرهن ويرمز بقوة للانقسام الذي نعيشه، بين الصورة التي نرغب أن نحققها عن أنفسنا، وبين تلك المكونة أيضاً من الآخرين عن ذواتنا”.

المكتبة والكتب ومن يكتب هذه الصفحات

لا يمكن الحديث عن القرين والكتابة، من دون التوقف عند كتابات (خورخي لويس بورخيس) في هذا المجال، من المعروف أن العديد من أعماله الأدبية، من شعر وقصة، ركزت على موضوعة القرين، وحملت قصصه العديد من العناوين المتعلقة بالآخر، ببورخيس وأنا، لكن حضور الكتابة والكتب في هذا النوع من القصص البورخيسية، يفتح لنا أفق الموضوعة. في قصيدته المعنونة (قصيدة عن الهبات)، تكون القراءة والولع بالكتب، إمضاء الليالي بالتنقل بين: “الموسوعات والأطالس الشرقية والغربية، العصور كلها، والسلالات الحاكمة، والرموز والأكوان وحكايات نشوء الأكوان”، هي الرابط الذي تتداخل فيه شخصيتان في النص (بورخيس) نفسه-الراوي، والثاني هو (ك.غروساك). لقد عمل (ك.غروساك) أميناً للمكتبة الوطنية في الأرجنتين قبل (بورخيس)، وانتهى مصيره إلى العمى. بعد سنين عيّن (بورخيس) لإدارة المكتبة فعاش بين ممراتها. كلما مشى (بورخيس) بين ممرات المكتبة الضخمة، فكر بخلفه (ك.غروساك)، بعماهما المشترك، بعلاقتهما مع الكتب، وإدارة المكتبة، والعيش في ممراتها. ليس العمى وحده يماثل مصيرهما، بل العلاقة مع الكتب والمكتبة، لقد تداخلا في ذهن ووجدان بورخيس، وكان فجأة تتداخل على (بورخيس) لحظته الحاضرة، مكانه الآني، ذاته الشاعرة والمتفكرة، مع (ك.غروساك):

“حين أمشي عبر القاعات البطيئة،

يزداد في الشعور بالرعب المقدس بأنني ذلك الإنسان الآخر، إنني الميت،

وأن الخطوات التي أخطوها هي خطواته أيضاً”.

السؤال الذي يطرحه (بورخيس) تالياً في القصيدة، يبين كيف تصبح الكتابة وسيلة لمعرفة الحقيقة، أو كمفتاح لمخرج من متاهة الأنا الغيرية:

“من منا، نحن الاثنين، يكتب الآن هذه الأبيات

عن أنا متعددة، وكآبة واحدة؟

وماذا تهم الكلمة التي تمثل اسمي

إذا كانت اللعنة التي حلت بنا واحدة؟

كيف يتحول بورخيس إلى غروساك؟ وماذا كان بورخس قبل أن يصير بورخيس؟”

من التنافس إلى التأثر: أصبحنا بحكاية واحدة

في (صورة الروائي) ترتبط الهوية بشكل مباشر بالكتابة، لأن مشروع وغاية كتابة رواية هي التي جمعت السارد بالكاتب الثاني. ولهذا فإن الأسئلة التي تتعلق بالذات، بالشخصية، بالفكر والمبادئ، والأهم بالأسلوب والذائقة الأدبية هي التي يحاول الراوي أن يتميز بها عن الكاتب الآخر. لا تكون العلاقة واحدة على مسار الرواية، فهناك تحولات، وتغيرات، وتقلبات، حتى للشروط التي فرضت منذ البداية، بدأت لعبة الأدب ترسمها أشبه بالمتاهة، يقول الراوي لشخصية “س”: “أفهمني، كل منا يكتب رواية، ما أخشاه أن يتأثر واحدنا بالآخر، هذا ليس في صالحك ولا في صالحي”، يبدو التأثر والتأثير هناك نفقاً مرعباً لا يمكن تخيل احتمالاته أو مجرد الخطو نحوه، لكن قراءة كتابات الآخر ونصوصه يعني التواصل، هل هناك أعمق من قراءة نصوص الآخر للتواصل معه: “دعني أكمل، روايتك تستهويني، وربما كانت روايتي تستهويك، وهي إغراءات متبادلة”. ليزاد على الحكاية تداخل جديد، إنه تداخل رواية كل من الكاتبين، ليعيدنا إلى سؤال (بورخيس): “من منا، نحن الاثنين، يكتب هذه السطور؟”.

بعد أن كان الخوف من التفاعل والتأثر، يصبح الإبداع تالياً في (صورة الروائي) مشتركاً بين الكاتب وقرينه، وتبدأ الحكايات المنسوجة في النصوص تستهوي كل منهما إلى رواية الآخر، وتظهر عبارات مثل “متعة”، “مسلسل”، “تشويق”، “مصائر الأبطال”: “أنت تشك في قدرانا ونزاهتنا، لسنا مقتبسي مواقف أو منتحلي تحقيقات، إن رواية كل منا متكاملة في ذهن صاحبها، يجب أن نستمر دون مخاوف إبداعية. خذ الأمر ببساطة، سوف نكمل ما بدأناه بنوايا متفق عليها، ونجعله ممتعاً، أشبه بمشاهدة تمثيلية تلفزيوينة على حلقات، نتابع متشوقين مصائر أبطالها، رغم أنهما تمثيليتان مختلفتان، حلقة مقابل حلقة”. لقد أصبحت العلاقة مع الآخر جزءاً من الرواية، ولا يمكن إنهاؤها إلا بمتابعة مغامرة التفاعل والتأثير والتأثر.

يستعصي على كل منهما إنهاء روايته، لم يعد بالإمكان متابعة الخاتمة بمعزل عما جرى مع الكاتب النقيض، أصبحت علاقتهما وأسلوب كتابتهما وتفاعلهما الأدبي هو الأكثر أهمية وعمقاً. وبعد أن كان الراوي يهرب من أي تأثر أو تشابه.. يصبح اقتراح الاتفاق، الوصول، أو كتابة خاتمة مشتركة حتمية سردية: “أنا أو س لا نجهل إلى أين ستقودنا روايتانا، وإنما نتجاهل، كلانا يخشى رواية قاربت على الانتهاء، والخاتمة الحل لا تكمن خارجهما بل داخلهما. تكون خاتمة موحدة لروايتينا”.

ثلاثية السارد، الكاتب، والمؤلف

هذه الحبكة الروائية، والبنية السردية في (صورة الروائي) تقدم للقارئ تجربة قراءة نصوص لا يدرك بدقة كاتبها، فالسرد يتحرك بين رواية الكاتب-الراوي وبين رواية الكاتب س، وهكذا يتحرك النص الروائي بين عدة كتاب، فمع اقتراب الرواية من نهايتها، يظهر (فواز حداد) بشخصه داخل نصه الروائي، لتصبح هوية السارد، أو كاتب الرواية التي يقرؤها القارئ لعبة مركبة من ثلاثة مستويات، الأول بين الراوي المجهول الاسم ونظيره الراوي س، ليحضر من بعدها، المؤلف باسمه كمستوى ثالث. هكذا، تميز الرواية بين الراوي، الكاتب، والمؤلف. بلقاء عابر، يقابلان كاتب رواية محترفاً، يعرضان عليه مساعدتهما في إنهاء الرواية، إنه فواز حداد نفسه، الذي سيأخذ الرواية منهما وينشرها باسمه، بعنوان (صورة الروائي)، الرواية التي تتضمن صفحتها الأخيرة، وبعد انتهاء سرد الحكاية، رسالة مباشرة من (فواز حداد) إلى القارئ، لتكون الأسطر الأخيرة هي التالية:

“اكتب، أنا فواز حداد، هذه الحاشية كتوضيح لا غنى عنه، وليس كخاتمة لابد منها، وأقول، إنني سمحت لنفسي أن أمهر هذا الكتاب باسمي، فلأنه لا يعقل أن أنسبه إلى مجهول أو إلى مجهولين. والآن، ليس بوسعي إلا أن أعزو تورطي في صياغة محتملة، إلى غواية رواية لم تكتمل، حرضتني على إشباع ميل في القص. أيها القارئ الكريم، لقد كتبت هذه الصفحة الأخيرة، كي أتحمل نصيبي من النقد”.

يخاطب النص الأخير القارئ بشكل مباشر، وبصوت المؤلف (فواز حداد)، وهكذا تبرع (صورة الروائي) في تركيب هوية السارد بين القسم الآخر من أقسامها. وتصبح لعبة القرين النقيض، عملية تأثر وإبداع مشترك بين صورتين للروائي وأكثر، لتبرهن على قدرة الأدب في التعبير عن مفاهيم مركبة حتى فيما يتعلق بالحتمية الوحيدة في الكتابة، وهي حتمية وجود مؤلف وسارد. كتب عنها أخيراً الشاعر (عباس بيضون) تحت عنوان “صورة الروائي، رواية الروايات”: “يصل اللعب الروائي هنا إلى أقصاه وتغدو الرواية معروضة بكل فنها واحتمالاتها، فنحن هنا بين اللعب الروائي والنظرية الروائية. هكذا تبدو اللعبة بارزة مطروحة، كما يغدو التاريخ لعبة وفناً ورموزاً”. ذلك تماماً، ما يعتقده الكاتب المجهول الهوية، أي الشخصية الرئيسية في الرواية، فهو يقول: “الرواية الحياة إنها شيء واحد. نحن دائماً في رواية نسعى ونتكدر ونضل على صفحاتها، رواية تفرز روايات، معظمها تفاصيل والباقي تبريرات كاذبة وادعاءات مخادعة، نضرب في نواة من عبث مثير ومرعب، نمتثل لواقع كريه ومجحف، وقسر حياة نتنازع فيها وعليها، ومتمزقة، الكتابة ضدها وصنوها، مرآة وتقاص، سؤال أشبه بقصاص”، من دون أن نعرف إن كان (فواز حداد) يشاركه الرأي.

(سوريا)