يأخذنا البحث في “أدب الحصار” إلى نصوص تتعلق بوصف تجربة العيش تحت الحصار، فيكثر وصف اليوميات، والتأملات الفكرية، وطرق العيش المتأقلمة، نصوص كثيرة تصف الأصوات في الحصار، وتلملم الحكايات عن المكان، أو البلدة، أو المدينة المحاصرة. ومع انتشار أدب الشهادات بكثرة في الإنتاج الأدبي السوري منذ العام 2011، فإن “أدب الحصار” ظهر كاستمرارية لأدب الشهادات، المركزة فيما ترغب أن ترويه عن تجربة العيش تحت الحصار.
لكن أكثر ما يلفت الانتباه إلى النصوص التي تصنف ضمن “أدب الحصار” هي تلك الفقرات التأملية في عادة، أو فعل، أو سلوك “الكتابة” نفسه. فمن خلال دراسة النصوص التي تتعلق بيوميات وشهادات الحصار حضرت باستمرار تأملات الكُتاب وأفكارهم عن فعل الكتابة نفسه في ظل حضور الموت أو اقترابه، حضور الخطر أو العدم، أي فعل “الكتابة” ضمن ظرف العيش الاستثنائي الذي يخوضه الكاتب أو الكاتبة.
الأسئلة والكتابة شعراً أم نثراً ؟
في قصيدته (حدث ذات مرة في حلب)، من بين ما يختاره الشاعر (فؤاد فؤاد) في وصف الحياة والمدينة، يفرد الشاعر مقاطعاً في وصف مكتبته، فيشبه الكتب الناجية من الموت بحكايات اللاجئين الناجين من تجربة النزوح القسري من الموت: “الكتب أيضاً تطلب اللجوء، وتخاطر لتصل إلى مستقر آمن. المكتبة المنزلية ذكريات وحكايات وأوراق صغيرة مدسوسة بين الأوراق وخربشات على الهوامش. آلاف الكتب وصلتني في شاحنة تشبه تلك التي وجدوها في النمسا تضم عشرات الأسر السورية، المختنقة”، ويقارب بين الكتب والضحايا: “كتبي تنام الآن في المستودعات جثة في مشرحة، كتبي الآن في الملجأ، أولاد لقطاء بين آلاف يشبهونها”.
وبما يتعلق بالكتابة، فإنه يصف الأسئلة التي يحملها الكاتب في عيش تجربة مدينة على حافة الاندثار، ومتفكراً بالأسلوب الأدبي المناسب لمعالجتها، إن كان شعراً أم نثراً:
“تمضي إلى سهرتك وجيوبك مليئة بأسئلة
وتعود وكتفاك محنيتان من حقائب الأسئلة
لي خلف كل هذا الحماس البريء من حائط، تضع عليه يدك العمياء، تمضي بنثر، وتعود بشعر، كأنما غاية كل هذا الدم أن نكتب قصائداً”.
الحرب تدمر فعل الكتابة
في قصيدته (في اللحظة التي تسبق القذيفة)، أيضاً يجعل الشاعر(غياث المدهون) من الكتب حضوراً إنسانياً تمتلك الأخلاق، ومشاعر الخجل من العنف والقتل: “في السنة الماضية، انتحرت قصائد عزرا باوند في مكتبتي، لم تعد تحتمل أن تقف في صف الجلاد”، وفي قصيدته (الحليب الأسود)، يصف كيف دمرت البراميل دفاتره، أي كيف دمرت فعل الكتابة: “كانت الحرب تجلس على حافة سريري كأنها زوجتي، وكانت آيات القرآن التي ضربني معلم الابتدائية كي أحفظها هي الشيء الوحيد الذي يساعدني على النوم، يا الله، لقد أكل الذئب قطعة من قلبي، ودمرت البراميل دفتري”.
الكتابة في ظل الاعتقال: الكتابة والواقع
العديد من نصوص أدب الاعتقال يمكن دراستها في إطار أدب الحصار. فالاعتقال يتشارك العديد من المزايا على المستوى الفردي مع تجربة العيش تحت الحصار، في نص (حين تكون الأم قيداً)، والذي يندرج تحت هذا الإطار، فإن الكاتب (محمد ديبو) يفكر بالأسئلة المطروحة في عقل الكاتب/(ة) عن تلك العلاقة بين الواقع والكتابة: تأخذك الأسئلة باتجاه الفرق بين الكتابة والواقع، وإلى أي حد يمكن للكتابة أن تعتبر أمينة للواقع إن كانت عاجزة عن نقل جنون تلك الأقبية كما هو، جنون جعلني أفكر وأسأل: كيف تمكن أولئك الذين صمدوا في تلك الزنازين ثلث قرن أن يخرجوا منها أحياء؟”.
ومن ثم في نصه الآخر بعنوان (اصمت في حضرة الموت والثورة) يقدم لنا ميزة الكتابة من داخل المعتقل التي ترتبط بالزمن، باللحظة الراهنة، فتحلق بعيداً عن الموت: “في حضور الموت، اكتشفت أن العمل والنشاط والمشاركة والكتابة في الداخل ميزتها الوحيدة الغرق في اللحظة الراهنة من دون القدرة على رؤية المشهد كاملاً عن بعد، وهذا يجعلك تغرق في التفاصيل. هذا كله يبعد عنك شبح الموت المحيط بك، تتناساه، أو تُجبر على تناسيه، لأن اليومي الزائل المعاش يستهلك الخالد المطلق الموت وينفيه”. ليعود في نصه بعنوان (الحكاية غير الرواية) إلى التأكيد على صعوبة كتابة تجربة الاعتقال، وكأنه يؤكد الفارق بين عيش التجربة وكتابتها: “الحكاية تُروى، الرواية تُقرأ، أما الاعتقال فلا يروى ولا يقرأ ولا يكتب. كل كتابة تقزيم وشرح لتجربة لا تشرح ولا تروى. تجربة لا بطولة فيها سوى الخوف”.
ليشرح لنا الكاتب (دلير يوسف) تجربة العيش تحت الحصار في الأماكن التي هجرها سكانها، نزحوا هرباً من الموت، يلجأ إلى فعل كتابة، فهو يروي كيف نقل من دفتر مذكرات أحد الغائبين فقرات إلى دفتره الشخصي في غوطة دمشق، وذلك في كتابه (حكايات من هذا الزمان): “عشت في بعض بيوت المدنيين ممن هجروا بيوتهم ونزحوا إلى مناطق أخرى، نمت على أسرتهم، وجلست فوق كراسيهم، واستعملت “أوانيهم للأكل، عشت مع صورهم ومذكراتهم، عشت مع أناس لم أعرفهم شخصياً. وقد نقلت إلى دفتر ملاحظاتي أحد المقاطع من دفتر مذكرات أحدهم، الذي تبين لي أنه شاب جامعي قد فارقته حبيبته منذ زمن ليس ببعيد”.
الكتابة الاحترافية في ظل الموت
الصحفية الفرنسية (إيديت بوفييه) كتبت تجربة العيش في حمص تحت الحصار، وأصدرتها في كتاب تحت عنوان (غرفة تطل على الحرب)، ومن المفيد التوقف عندما كتبته لكونها تشكل رؤية أجنبية للحدث، وتجربة كاتبة صحفية تنظر لنا عن فعل الكتابة في ظل تلك التجربة، ففي استهلال تتطرق الصحفية لموضوع الكتابة في ظل خطر الموت مبررة الدافع المهني والإنساني: “كتابة هذا الكتاب محجنة. لكنني أعلم أنها معبر ضروري. لأن هذه هي مهنتي، الشيء الوحيد الذي أعرف أن أفعله: أن أحكي، أن أتكلم، أن أشهد، لكي لا أسمع أحداً يقول: لم نكن نعلم. كي لا تُنسى أولئك النسوة، أولئك الأطفال وأولئك الرجال، الشباب والشيوخ المتمردون الشجعان، تلك الإنسانية المهانة المذبوحة”.
الكتابة كرسالة وجودية
في يومياتها بعنوان (رسائل من سورية)، تشرح الكاتبة (وجدان ناصيف) كيف يصبح نقل المشاهدات أو الكتابة للآخرين فعلاً يمتلك معنىً وجودياً، فرغبت الشهادة على ما يحدث هو الدافع المتبقي الوحيد للاستمرارية: “مساء الخير، احتجت إلى الكثير من الوقت هذا الصباح حتى اتخذت قراري بالذهاب إلى العمل، ما جعلني أحسم أمري هو أني أريد أن أنقل لك مشاهداتي. لعلي أكون شاهدة أمينة على ما يحدث”. غاية الكاتبة هو فتح قنوات التواصل بين ما تعايشه في الواقع اليومي في سوريا وبين العالم: “أخبار العديد من أصدقائي في ريف دمشق قطعت منذ أسابيع، ولا أعرف إن كانوا أحياء أم أمواتاً؟ مهما يكن يبدو بأنني حسمت أمري، وسأستمر في كتابة رسائلي السخيفة هذه، لأني في النهاية أعرف أن بشراً طيبين مثلك يهمهم ما أقول. باختصار ستستمر المحاولة: “أيها العالم، ألو، ألو، … معكم سورية، ألو”.
يهدي الشاعر (علي جازو) كتابه بعنوان (يوميات وقصائد)، نقتبس: “إلى ساعات العزلة وساعات الضعف التي جعلتني أحب كل أولئك الذين لا أعرفهم”. وفي واحد من نصوص الكتاب بعنوان (10 أعداد من مجلة المحامون)، يحضر دور الكتب في لحظات الحصار أيضاً، إنها صورة تقليدية عن الاضطرار إلى حرق الكتب للحصول على الدفء في فترات الحرب: “لدي الكثير، لا تقلق! طمأنت أخي. سنتغلب على البرد. هذه عشرة أعداد من مجلة “المحامون”، هناك أعداد أخرى. في كل عدد 200 صفحة، أوراق عريضة سميكة، جيدة للحرق، هيا!. نفد المازوت، نفد الغاز، لا كهرباء في البيوت. الطعام، ينبغي العثور على طعام. كتب، لدي كتب، فلنحرقها، لنضعها تحت الطعام“.
يقارب الكاتب (رامي العاشق) بين جمع النصوص وجمع الأشلاء المتبعثرة من الجسد، فالنصوص هي قطع من الذات تعبر عنها بالدقة، فيكتب في كتابه المعنون (مذ لم أمت): “جمعت هذه النصوص كمن يجمع أشلاءه، ها هي ذي أشلائي مجمعة في كيس ورقي، غير مرتبة، عشوائيتها هذه، حقيقة بخرابها، دموية تارة، عنيفة، صادقة، خيالية، ذاتية، تشبهني بكل جنوني وأمراضي”.
تتعدد الموضوعات التي يشاركها كتاب وكاتبات أدب الحصار، يميزها في بعض الأحيان تأملات على مستوى الأسلوب الأدبي، أو النوع الأدبي شعراً أم نثراً، ويميزها أحياناً أخرى الأسئلة الوجودية عن جدوى الكتابة في ظل خطر حضور الموت اليومي والمستمر، وأسئلة الكتابة أمام عبثية الحياة غير المضمونة اللحظات المستقبلية. لكن النصوص السابقة أيضاً تبين كيف خاطر الكتاب والكاتبات في حياتهم من أجل استمرارية فعل الكتابة، وكيف شعروا أن فعل الكتابة الذي يقومون به في العزلة وقريباً من الموت، يمنحهم ذلك الشعور القوي بالتواصل مع الحياة ومع التاريخ.
(سوريا) (صورة المقال الرئيسية من غلاف كتاب “جامعو كتب داريا.. مكتبة سوريا السرية”)