علاء الرشيدي: كورال المنفى في إنشاد القضايا السياسية والدينية والجنسانية

0

فيلم الكورال (Film Choral)، هو المصطلح النقدي المستمد من الكورال الموسيقي للتعبير عن الأفلام التي تتضمن عدداً كبيراً من الشخصيات التي تتقاطع مصائرُها في أحداث الحكاية دون أن تطغى أيٌّ منها على الأخرى، وأشهر نماذجها فيلما المخرج الأمريكي روبرت ألتمان: “ناشفيل” (1975)، و”طريق مختصر” (1993)، لينتشر هذا النوع السينمائي بشكل واضح في تسعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى فيلم “Pulp fiction” للمخرج كوينتين تارانتينو عام 1994.

لا مقابل نقدي في الحديث عن الرواية الكورالية التي تكتبها روزا ياسين حسن في تجربتين؛ الأولى “الذين مسهم السحر (2016)، والثانية “بحثاً عن كرة الصوف/ثلاثة أيام من متاهة المنفى” (2022). في كلتا الروايتين تبتكر الأديبة عدداً كبيراً من الشخصيات القادرة على التعبير عن التنويعات الاجتماعية، الفكرية، السياسية، والجنسية، التي يعيشها المجتمع السوري في لحظة تاريخية معينة.

في الرواية الأولى، الغاية هي رواية الثورة بكلّ انعكاساتها الحكائية، وتنويعاتها الفكرية والإيديولوجية والنفسية، وفي الرواية الحالية فإن موضوعة المنفى هي التي تتطلب هذا القدر من الشخصيات السورية في ألمانيا في الفترة الراهنة، والذين يتقاطعون في سطور وفقرات الرواية، كما تتقاطع الشخصيات في فيلمي ألتمان اللذين يُعبّران أيضاً عن الوسط الثقافي الأمريكي في السبعينيات، وفي التسعينيات.

لا شك أن الأدب السوري المعاصر في انتظار عمل روائي يتعامل مع موضوعة المنفى بتجلياتها المتعددة، وهذا ما تقدمه الكاتبة عبر أحداث ثلاثة أيام تُقسم على أساسها فصول الرواية: “يوم أول في متاهة المنفى: ثم كانت صدمة لم نستفق منها”، “يوم ثانٍ في متاهة المنفى: إنه الإنكار لا بل الحنين”، و”يوم ثالث في متاهة المنفى: حين يسيطر الواقع.

إذاً، إنها كرة الصوف في المتاهة، ذلك الوصف المجازي للروائية لتفتح السرد على حكايات عدد كبير من الشخصيات، لكلٍّ منها خصوصيتها ضمن شرط الماضي وضمن شرط حاضر الهجرة واللجوء. توضح الكاتبة في حوار: “منبع الرواية الأساسي هو البرزخ الذي نعلق فيه كأرواح معاقبة، التروما العميقة في دواخلنا كلّنا، وفي كلّ شخصية من الشخصيات العديدة المختلفة، وأحياناً المتناقضة، التي تحفل بها الرواية، والتمظهرات المختلفة كذلك للتروما. تطوّر الرواية يتلخّص في صراعنا الشخصي والعام مع تشعبات متاهة المنفى، كمن يبحث عن كرة الصوف/خلاصه الفردي التي ستخرجه من المتاهة. وكلما مرّ الوقتُ راحت المصائرُ المختلفة للشخصيات تتعقّد وتتشعّب وتتفارق”.

وتحيلنا كرة الصوف إلى حكاية الحسناء أدريان، التي تقف إلى جانب ثيسيوس، الشاب القادم للتمرد على سلطة والدها مينوس، فتقع في حبه من النظرة الأولى، فتعطيه كرة صوف سحرية لتساعده في الخروج من المتاهة بعد أن يقتل الوحش.

الهجرة في البحث عن الاكتشاف الجنساني

بداية تتابع الرواية شخصية سرمَد، مهاجر يسعى للحصول على اللجوء الإنساني في ألمانيا باعتباره مضطهداً جنسياً في بلاده. وقد انتهى به المطاف الآن في كامب اللاجئين، حيث الخطورة على حياته بسبب ميوله الجنسية مستمرة، ويعمل في الدعارة ليلاً للحصول على المال:

“بعد مساومة قصيرة اتجه الاثنان إلى سيارة الرجل الضخم:

– ظننتك امرأةً من البعيد.

– والآن كيف تراني؟

– رجل بأنوثة امرأة، وهذا ما يجعلني مثاراً أكثر”.

تحضر موضوعات الجنسانية في الرواية الحالية بأكثر من حضورها في أعمالها السابقة، وشخصية سرمد أساسية في الدخول إلى مشاعر وظروف وتجارب المثلية الجنسية اللاجئة التي تجد في بلد اللجوء احتمالاتِ التجريب والتسامح. فيروي سرمد المرةَ الأولى التي رأى فيها قبلةً متبادلة بين رجلين في ألمانيا: “تسمّرت أمامهما وشعرت بانتصاب قوي ظهر من تحت بنطالي”.

وكذلك يروي تجاربَه في الدخول والشراء من متاجر السكس والأدوات الجنسية، وقد تعرّف سرمد على حبّ حياته، شتيفان، المتطوع الألماني الذي يقدم المساعدات للاجئين، الهاربين من الموت والناجين منه: “لأول مرة في حياتي أشعر بأني أتصالح مع جسدي، أعيشه، استمتع به دون شعور عميق بالذنب”. لكنه الآن في حال الانفصال عنه: “قبل أن يطردني حبيبي شتيفان من بيته عاشرني للمرة الأخيرة بطريقة لا تشبه معاشرته القديمة المحبة أبداً”.

وكما هي كاميرا ألتمان في حركة جدلية بين الشخصيات، فإن الحدث الروائي ينتقل إلى تنويعة أخرى من شخصيات الرواية، وهو الأستاذ عيسى الذي كان محامياً في مجال حقوق الإنسان في سوريا، بينما هو اليوم في ألمانيا يعاني من ذكرياتِ تعابير المأساة والألم التي عاناها المعتقلون الذين كان يزروهم في السجون، فهي تلاحق ذاكرته دون توقف: “الليلة داهمه وجهُ خليل، أحد المعتقلين الذين كان يستلم قضاياهم كمحامي حقوق إنسان، ويزورهم بشكل دوري في سجن دمشق، يقول خليل: (لم أعد رجلاً يا أستاذ عيسى، لقد سلبوا مني رجولتي). مئات الوجوه التي عرفها لن تتركه ينام، مئات الوجوه التي خذلها وهرب في يوم ما من البلاد لن تتركه ينام. مئات الوجوه المتروكة في جحيم معتقلات النظام لن تتركه ينام”.

بانورامية المنفى السوري من النشاط السياسي إلى الموسيقى واللوحات والجنسانية

تختار الروائية أحياءً بعينها في هامبورغ لتجري فيها أحداث الرواية، تحمل تاريخاً من النضال السياسي والثقافي، أو تحمل إحالات إلى حركات ثقافية وسياسية ماضية، منها حي “شتيرن شانسه”، الحي الفوضوي اليساري في السبعينيات والثمانينيات، حيث ملصقات الفهود السود وأنجيلا ديفيس وألبومات البيتلز، وحي “سانت جورج”، من أهم الأحياء المناهضة للنازية في الثلاثينيات والأربعينيات، والذي حفل بالمثليين الجنسيين والفنانين المعارضين لهتلر.

وفي ظل هذا النشاط السياسي نتعرف على الشخصيتين مريام وهديل، الناشطتين المشاركتين باستمرار في المظاهرات والتحركات التي تشهدها مدينة هامبورغ. وكما تكتب الناقدة هيلين كايسر عن شخصيات أفلام روبرت ألتمان:

“إن المفاتيح إلى العلاقات بين هذه الشخصيات هي في مصاعبهم التي تُبين ارتباطهم مع بعض”، فهنا تأتي الشخصية التالية في الرواية، جاد، الرسام الذي يحضر لمعرضه “أحاديث لونية”: “يمكن لجاد خلق احتمالات لا متناهية للعيش فيها، وهو وحده من يقررها بخياله. يستطيع أن يسجن كل الألم الذي يعانيه، كل الأعاصير التي تتقاذفه، في إطار اللوحة، وهكذا يتخلص منها، وهذا بالضبط ما يجعله يختنق حين يبتعد ولو لفترة قصيرة عن لوحاته وألوانه”.

وبالإضافة إلى الجنسانية، والفن، يحضر الدين أيضاً في تنويعات مختلفة بين الشخصيات؛ فهناك شخصية عمر العطار الذي يتردد على جامع في طابق سكني في المدينة، والذي يستشيط غضباً حين يسمع أصوات عبد الوهاب، فيروز، صباح، وديع الصافي، وفريد الأطرش تخرج من مذياع والدته.

وشخصية الدكتور سعيد اللومي دكتور الشريعة تعرفه الجالية العربية في هامبورغ برمتها، كما نعرف بأنه حاز على دكتوراه الشريعة من جامعة الأزهر بتقدير ممتاز، ثم قرر الهرب إلى هامبورغ بدلاً من العودة إلى دمشق. بالمقابل، تعيش شخصية ناريمان تحرراً من قيود التعليم الديني الذي كانت تتبعه في دمشق، حين كانت مهندسة استشارية في وزارة السياحة، تواظب على دروس الدين التي لم تقنعها بالإبقاء على الحجاب، فخلعته.

وكما يتم التعبير عن فكر شخصية عمر العطار الدينية عبر الموسيقى، فإن الروائية  تختار التعبير عن التغير التي تعيشه شخصيةُ هديل، من خلال التغير في ذائقتها الموسيقية: “لم تكن تتخيل سابقاً أن تستسيغ موسيقى التكنو، فالموسيقى الحقيقة كانت الجاز أو الموسيقى الكلاسيكية أو مقطوعات زياد الرحباني، ومارسيل خليفة وشربل روحانا”.

بالإضافة إلى الموسيقى، توظف الروائية فنَّ اللوحة في التعبير أيضاً عن الحالات الحسية، الذهنية، والنفسية لتجربة اللجوء، وذلك من خلال فقرة تصف معرضاً مقاماً في المكتبة العامة في المدينة.

وتنتهي الرواية بمظاهرة عامة تجمع أغلب شخصيات الرواية؛ مظاهرة لدعم لاجئي البحر زيبروكه: “آلاف وآلاف من المتظاهرين يتجمعون في الساحة، وعشرات الحافلات والسيارات المحملة بالأعلام واللافتات والدمى. عيس النديم يلوح بعلم الثورة السورية، يقف مع مجموعة من شبان آخرين يحملون صور بعض المختفين قسرياً والمعتقلين، ليس ببعيد رودي عمو يلوح بالعلم الكردي تضامناً مع عفرين، ووسط الجلية والضجيج كان هناك مجموعة من الموسيقيات والموسيقيين يفترشون الأرض، غيتار، تشيللو، كمانين، فلوت، درامز، يعزفون شيئاً لا يمكن لأحد من بعيد أن يلتقطه جيداً. وسماء هامبورغ تراقب كل شيء بصمت، لم ولن تنتهي حكايات المتاهة”.

وتتابع الرواية مجموعة من الموضوعات المرتبطة بالتجربة السورية في اللجوء والمنفى، وتمثل كلٌّ من الشخصيات واحدة من هذه الموضوعات: الفكر الديني، السياسي، والتجربة الاجتماعية والثقافية. ويحضر بشكل مميز في هذه المرحلة في الأدب السوري المعاصر موضوعات الجنسانية، وحقوق المثلية الجنسية، والاختلاف، والعبور. 

المنفى والمهجر بين الجسد الحر والجسد المفروض

لكن أدب سلمان رشدي يقدم لنا سرديةً مناقضة تماماً عن سردية حرية اللاجئين في اكتشاف تجربتهم الجسدية والجنسانية الخاصة، فيتميز أدب سلمان رشدي بحكايات التحول التي يعيشها المهاجرون أو اللاجئون حين وصولهم إلى مجتمعات اللجوء، ووقوعهم تحت أثر الصورة النمطية المفروضة عليهم، فأغلب شخصيات رواياته، وخصوصاً اللاجئة التي تعاني من صورة نمطية، تجسد في لحظة من لحظات الرواية هذه الصورة النمطية وتتحول لها.

في رواية “آيات شيطانية” (1988) تتحول الشخصية الرئيسية، وهو المهاجر الواصل حديثاً إلى لندن، إلى كائن المينوتور، أي يتحول إلى حيوان بين التيس والحصان، وبذلك يجسد الصورة التي يرى فيها المجتمع اللاجئَ الهندي أو الباكستاني أو العربي، بوصفه أقربَ إلى الحالة البهيمية، القوة الجنسية، وفقدان القدرة على التحكم بالسلوك. وهكذا تجسد الشخصية الصورة المرسومة للمهاجر في المخيلة الجمعية.

كذلك في رواية “غضب” (2001)، وهذه المرة مع المجتمع الأمريكي، فالبروفيسور وصانع الدمى (سولانكا)، المهاجر الهندي القديم، والذي يعيش منذ سنوات في الولايات المتحدة، مع عائلة سعيدة، ومهنة ناجحة ومقدرة فكرياً، ما يلبث فجأة أن تتلبسه قوة خارقة يسميها الكاتب “جني لعين”، يدفعه إلى قتل زوجته وطفله، وهذا ما يطلق سلسلة الأحداث التي تعيده إلى لندن أولاً، ومن ثم إلى بلده الأصلي الهند، حيث سيخضع هناك أيضاً لسلسلة من التحولات، لكن هذه المرة مبنية على رؤية المجتمع الأصلي للمهاجر العائد من أمريكا وأوروبا، وكذلك سيخضع كما جميع شعوب الشرق، رغم سنين عمره المتقدمة، ود. سوليكنا إلى الاعتقال وحياة العصابات والقمع بوصفه ميزة حياة أي مواطن شرقي.

إذاً، شخصيات رشدي في تحولاتها تبرهن على ألا خلاص للاجئ أو المهاجر وأنه على الدوام معرض لأن تسيطر عليه، أو تفرض عليه، أو تبتلعه صورة نمطية أو هيئة حيوانية أو فوق طبيعية تعبر عن السمات المرسومة للاجئ والمهاجر في المخيلة الجمعية.

كذلك الأمر في فيلم “الرجل الذي باع جلده” (2020)، لكوثر بن هنية، حيث تعالج الحبكة الحكائية أيضاً موضوعة الجسد اللاجئ، ويكثف المعالجة حيث يجعل من تأشيرة الفيزا للهجرة لأوروبا بمثابة الدمغة التي تسم المهاجر التي يحملها دون إمكانية التخلص منها، فيمكن رواية السيناريو باعتباره قبولَ سام وشمَ عملٍ فنيٍّ على ظهره مقابل الحصول على أذن الهجرة، إلا أن تتابع الأحداث وصولاً إلى النهاية، يبين أن الفيزا التي يشِمها الفنان البلجيكي جيفري كوديفرا على الجسد السوري لا تقف عند حدود العمل الفني الموضوع على جسد، بل هي رمزية لكلّ فيزا إدارية تخضع جسد اللاجئ إلى شروطها، وتجعل منه عاجزاً عن استعادة ماضي جسده، وفاقداً القدرة على التحكم بمصيره المستقبلي. فمنذ أن يقدم الفنان جيفري عرضه على سام بأن يحول جسده لعمل فني، يخبره بأن واحداً من أسمائه هو “مفيستوفيليس”، وهو اسم الشيطان الشهير في حكاية “فاوست” لغوته.

وخلال عملية رسم الوشم على الظهر، يبرز الجسد الجنسي، فتركز اللقطة على رسم عملية الرسم على الظهر بإحالة إلى الفعل الجنسي؛ إفرازات الألوان، الملمس، تعابير الوجه التي تدمج بين الألم وتعابير النشوة، وضعية العلاقة بين جسد الفنان وجسد-العمل الفني، تحمل تصوير كلِّ هذه المشاهد إحالاتٍ جنسيةً واضحة. وفي واحدة من جلسات التصوير، يطلب من سام أن يخفض رأسه، يخفي حضوره، ليحل محله في إحدى الصور رأس الفنان جيفيري، بإشارة إلى امتلاك جيفري البلجيكي جسد الحالم بالانتقال إلى أوروبا سام، والإشارة إلى الشيطانية ومفيستوفيليس تذكر بالتحولات الشيطانية والجنية التي تعيشها شخصيات سلمان رشدي.

أما في رواية روزا ياسين حسن، يتم التعبير عن رأي تقييد الجسد في المهجر من خلال حوار يجري بين يحيى وعيسى عن الرقابة التي يخضع لها في دول تلزمهم بالقوانين حتى تحولهم روبوتات مسيرة مبرمجة: “أزجر نفسي كيلا أتحسس جسد كل من أصادفه علني أعثر على أجهزة التحكم في أجسادهم”، وها هما يرفضان التحول المفروض عليهما. لكني لن أسمح لهذه البلاد أن تدجنني، أن تجعلني دجاجة أخرى في مدجنة كبيرة. لم أفقد كل شيء كي أغدو دجاجة في هذا العالم الجديد”.

لا تكتمل الرؤية الفكرية في رواية “بحثاً عن كرة الصوف/ثلاثة أيام من متاهة المنفى” إلا بتعدد أنماط الشخصيات التي ترصدها الروائية في لحظة تاريخية قومية معينة، ومع تجربة اجتماعية ثقافية هي المنفى، والرحلة بين تناقضات الشخصيات، أو بالأدق مراياها الهوياتية هي رحلة جدلية تنتقل باستمرار بين جنسانية متزمتة وجنسانية مجربة، تيارات سياسية ناشطة وأخرى تقليدية، وكذلك سلوكيات دينية منها ما يتزعزع، ومنها ما يزداد رسوخاً مع الوقت في داخل الشخصيات، وهكذا يكون فعل القراءة أشبهَ بالإنصات إلى غناء جوقة كورالية لا تتشكل كتلتها الموسيقية إلا بجدليات هارموني الأصوات.

(رصيف 22)