يعرف السوريون مقدار الشك بالآخرين، بالحيطان، وحتى بأفراد العائلة. فكل مواطن يحتمل أن يكون كاتباً للتقارير بالتعبير السوري، أي يمكن أن يكون مخبراً.
إن خلق العزلة بين أفراد المجتمع، هو أسلوب الحكم الأساسي الذي تتبعه الأنظمة الشمولية في حكم الشعوب.
( من كتاب الأنظمة الشمولية، حنة أرندت)
ربما تكون الشخصية الأكثر تعبيراً عن المرحلة السياسية التي عاشتها الدول العربية خلال سنوات حكم الحزب الواحد، هي شخصية المخبر.
فمع تصاعد الأنظمة الاستبدادية والتضييق على حرية التعبير، تصاعدت القبضة الأمنية التي يعتبر “المخبر” أكثر وجوهها حضوراً في الحياة العامة والاجتماعية.
لهذا كتب الأديب السوري محمد الماغوط: “كلما اجتمع عربيان، كانت المخابرات ثالثهما”، وفي تصريح آخر: “ديوان العرب اليوم ليس الشعر… وإنما أقبية المخابرات”. وتربط مسرحية “كاسك يا وطن” الشهيرة ظهور المخبرين بالنظارات السود على الخشبة، يقرأون الجريدة عند زوايا الشوارع، بنتائج هزيمة حرب الـ67، في إشارة إلى تسيد الحكم البوليسي. ودرج حينها اسم “المكتب الثاني أو الثالث” في الإشارة إلى جهاز المخابرات الأقوى في الدولة في كل من مصر، سوريا، لبنان.
بالعودة إلى التاريخ، ربما يكون أشهر المخبرين في التاريخ هو يهوذا، الذي أمنه المسيح على حياته، فأفشى سره إلى الرومان ما أدى إلى صلبه، لكن يهوذا الواشي يعايش الندم، وينزل عقوبته نفسه بنفسه فينتحر على جذع شجرة عند طرف المدينة، ليصبح كما أوديب أشهر منفذي عقوباتهم ذاتياً. وكأن إنزال العقوبة على النفس، بالانتحار يزيل عنه السخط التاريخي. لكن هل حقاً مصير كل الوشاة هو مصير يهوذا؟ في فيلم “المحادثة”، ينتهي المتلصص الصوتي (يؤديه جين هاكمان) إلى الجنون الأخير في نهاية الفيلم، إلى سقوط مدوٍ في البارانويا المهلك.
تلاميذ الوشاية
يعرف السوريون مقدار الشك بالآخرين، بالحيطان، وحتى بأفراد العائلة. فكل مواطن يحتمل أن يكون كاتباً للتقارير بالتعبير السوري، أي أن يكون مخبراً. في مسرحيته “الواشي” يجسد بروتولد بريخت بقسوة العيش في ظل القلق المستمر من أفراد الأسرة الواحدة. وهي مسرحية من فصل واحد ظهرت في الجزء الثاني من الأعمال الكاملة للكاتب التي نشرت في مجلد بعنوان: “الرايخ الثالث ومظاهر الهلع والبؤس”. تفتتح المسرحية بقصيدة في غاية القسوة، تشرح كيف يركز نظام التعليم على إنتاج الوشاة والمخبرين، بينما تتراجع أهمية نقل العلم والمعرفة إلى الطلاب:
“هاكم يا سادتي الأساتذة، لقد شدهم من أذنهم،
ذلك المسخ ليعلمهم كيف يقوسون ظهورهم.
كل تلميذ واش. أما معرفة أمور الأرض والسماء، فلا سبيل إليها.
هاكم إذن الأولاد الأعزاء الذين سيبحثون عن الجلادين، فيقودونهم إلى البيت، ويشيرون إلى والدهم بنعت الخيانة. فيؤخذ مقيد الرجلين واليدين”.
الواشي طفل العائلة
تجري أحداث المسرحية في كولونيا الألمانية عام 1935، الأب والأم والصبي في غرفة واحدة، حيث ينتقد الأب هطول المطر اليوم: “إن هطول المطر اليوم لكارثة، أما حين يغدو هطول المطر في بلد ما كارثة، فإن الحياة لا تعود ممكنة”. تنبه الأم، زوجها أليس من الحكمة مناقشة هذه الأفكار بصوت عال، فيجيب الأب: “ما دمت بين جدران بيتي الأربعة، فأنا أناقش الأفكار التي تروق لي، ولن أقبل أن يفرض الصمت علي في داري”، ويطلق الأب انتقاداً آخر بعد برهة وهو يتصفح مقالات الجريدة.
الأم: لكنك تعرف حق المعرفة، أن هم الأطفال الدائم، الإصغاء لما يقال. ماذا لو شرع يسرد ذلك على من حوله؟ فأنت تعرف من دون شك ما يهذرون به دون كلل على مسامع الشبيبة الهتلرية.
لكن غياب الصبي المفاجئ يثير ريبة الأب والأم، يبدأ الأب بمراجعة ما تفوه به أمام ابنه: “لكن حيثما يوجد ناس توجد نواقص، كان هذا مقصدي، وأنا لم أرم إلى أكثر من ذلك، بل قلت ذلك بطريقة ملطفة أيضاً”. تصبح العلاقة بين الأم والأب علاقة المفتش المحقق مع أقوال الأب المحتملة الانتقاد للطبيعة أو للجريدة، تقول الأم: “أنت تتصرف تماماً كما لو أنني جهاز الشرطة، إنما اسألك ما قلت لأعرف ما سمعه الصبي”، وهنا يصف الأب ابنه بيهوذا الذي يجلس إلى المائدة ويصغي لكل شيء وهو يتناول الحساء، ويؤكد أنه رآه يدون المعلومات، ويصفه بالواشي.
يتوقع الأبوان دخول الصبي مع عناصر الأمن، ويترددان حول إعادة صورة هتلر إلى صدر الحائط، لكنهما يخشيان من أن ينتبه الصبي إلى إبرازها المتعمد، وفي غمرة القلق والخوف يعود الصبي إلى المنزل وهو يحمل كيساً من الشوكولاتة التي خرج لشرائها، وحين يسأله والدها عن مكان اختفائه، يشرح أنه مشى إلى الدكان لشراء الشوكولاته، لكن راحة البال لا تتم، فالشك بصدق الصبي يستمر. إن النظام الأمني جعل الصدق مستحيلاً بين أفراد العائلة الواحدة، والأقسى هو خوف الأبوين من الصبي، والشك في علاقتهم جميعاً ببعضهم بعضاً. إن “واشي” برتولد بريخت نموذج مثالي على مقدار القلق وعدم الأمان بين أفراد العائلة الواحدة.
المخبر الباحث عن دور ومعنى
أشهر الوشاة السوريين المعاصرين هو شخصية “عادل الفساد” في مسلسل “ضيعة ضايعة”، بالحضور الكوميدي الذي أضفاه عليه الكاتب ممدوح حمادة إلا أنه تأكيد لحضور هذه الشخصية في أصغر التجمعات البشرية في سوريا، وحتى في الضيعة الضائعة عن الزمان والتاريخ. تأتي أهمية هذه الشخصية من التبرير الذي تقدمه كدافع لأعمالها، خدمة الوطن وإرساء الأمن والنظام. ليس خطاباً بسيطاً أو ساذجاً كما يبدو للوهلة الأولى، لأن دوافع نبيلة قد تدفع الوشاة أو المخبرين إلى القيام بأفعال شائنة، كما أن الديكتاتوريين يعتقدون بأنهم ينقذون الوطن وأن طريقتهم هي الأنجع، لذلك يتحولون إلى طغاة تحت تبرير الدافع الوطني. لكن الكاتب ممدوح حمادة يرسم الشخصية بذكاء أكبر، فعادل ليس فاسداً فقط بل هو انتهازي، وهو يفكر باستمرار بكيفية إرضاء مرؤوسيه أكثر مما يفكر بالدفاع عن الوطن. يوظف الكاتب الكوميديا ليرسم بتعقيد دوافع عادل لأفعاله، فالمشاهد لا يجزم في نهاية الأمر إن كان عادل يقوم بذلك بدافع انتهازي، أم أنه مؤمن بدوره، أم أنه مهووس عصابي، لا يتوقف البحث عما يجعل وجوده مهماً، فيبتكر أفكار التقارير جديدة. إنه ليس مراقباً فقط، بل مبتكر، وإن لم تكن هناك مؤامرة فلنخلقها، واحدة من عبارات الأنظمة الأمنية في رواية “السوريون الأعداء”، لفواز حداد. يصل الأمر بشخصية عادل للتفكير في إحدى الحلقات بكتابة تقرير بنفسه: “عادل الفساد بدو ينسف حالو تقرير”، تبقى حتى نهاية المسلسل علاقته ملتبسة بمخفر الشرطة، ونشعر بأنه واهم التواصل مع الإدارات الأخرى. لقد تمكن الكاتب عبر الكوميديا من تفكيك شخصية المخبر، في علاقته مع السلطة، وفي بعده النفسي.
خيانة الذات لإرضاء الحزب
تبدو أعمال جان بول سارتر القصصية والمسرحية مهووسة بفكرة الخيانة، ذلك أنه كتب عدداً كبيراً منها عن القوى الثورية الفرنسية وفي ظل الاحتلال النازي. كان الحذر والتخفي لحماية الثوار غاية فكرية في أعماله الأدبية. لذلك تركزت الوشاية هنا على خيانة الثوار بعضهم بعضاً. وقد برز هذا القلق وضرورة إخفاء الهوية أثناء الثورة السورية أيضاً. في مسرحية “الأيدي القذرة” يعود هوغو إلى الجماعة الحزبية المقاومة بعد فترة من الاعتقال، ما يدفع رفاق الحزب للشك به. فيبذل هوغو ما أمكنه ليكتسب ثقة الحزب من جديد، ليصل به الأمر إلى ارتكاب جريمة غير مقتنع بها فيقتل أحد قادته المفضلين في النضال، فقط لإقناع الحزب بصدق انتمائه والبرهان على إخلاصه.
لكن الحكاية التي يعالج فيها سارتر الوشاية بطريقة أكثر جذرية، هي قصته الشهيرة بعنوان “الجدار”، فبطل المقاومة في قصة الجدار حكم عليه الفاشيون الإسبان بالإعدام، وتبدأ القصة على جدار الموت، وهو يشعر بفقدان القيم، وعبث الحياة، ولكنه في لحظاته الأخيرة يسخر من جلاديه حين يمنونه بإطلاق سراحه إذا دلهم على مخبأ صديقه وزعيمه، فيدلهم على مكان خاطئ يستحيل أن يكون فيه الزعيم، لكن المصادفة المذهلة، تقود الزعيم إلى المكان الذي دلهم عليه، وعلى الجدار يعدم الزعيم، ويطلق سراح بطل القصة، ليعيش على حافة الهستيريا والانهيار. عبر حكاية “بابلو إيفاتا” التي تفتتح القصة وهو يستعد لتنفيذ حكم الإعدام فيه، ومفارقة الحياة، ونسمع مونولوغاته عن استعداده للموت على جدار الإعدام بالرصاص، تعرض عليه إدارة السجن مبادلة حياته بمعلومة عن زعيمه رومان غراي، يرفض بابلو بدايةً ولأكثر من مرة، ثم يفكر بالتحايل ويخبرهم عن مكان يستحيل أن يكون فيه الزعيم غراي، لكن المصادفات الأدبية التي أرادها مؤلف القصة، تحمل مضمونها، الوشاية حتى المخادعة منها مرفوضة، ليس كممارسة بل كمفهوم.
مراقب الدوام، المخبر الرأسمالي
في عرضه “المراقب” قدم المخرج يامن محمد قراءة لنص “محطة فيكتوريا”، هارولد بنتر. ينقلنا النص من المراقب السياسي إلى المراقب الرأسمالي كما هو الحال في النص، ليضيف إليه المخرج محتوى العلاقة بين السلطة والجمهور في سوريا. في المسرحية شخصيتان، المراقب الجالس في غرفة التحكم المروري والتي تنسق لسائق سيارات الأجرة عملهم وحركتهم. وكما هي عليه نصوص بنتر فإن الأبعاد الطبقية واضحة في الحكاية، مراقب العمل أو مسجل الدوام هو السلطة التي تجسد النظام الرأسمالي عبر أوامره الجافة إلى مذياع سيارة الأجرة حيث قواد السيارات التاكسي يتحركون بناءً على توجيهاته. المذياع داخل سيارة الأجرة كفرمانات السلطة. لكن المسرحية تبدأ حين يرفض السائق التوجه إلى محطة فيكتوريا، ويصر على الاحتفاظ بالزبون الذي بصحبته، فتظهر عبارات العنف السلطوية: “زتو للراكب معك بأقرب زاوية، وتوجه مباشرة إلى محطة فيكتوريا، وإلا رح دمرك عظمة ورا عظمة، وإلا رح آكلك واستفرغك، وإلا رح بزق أمعاءك من بين سناني”، لكن كل شيء يتبدل حين يعلمه السائق بأن معه في السيارة زبونة امرأة، وأنه واقع في الحب للمرة الأولى في حياته، ويشرح بمثالية وحماسة أنه لن يتركها، وأنه قرر الزواج منها والموت إلى جانبها.
وبينما نتوقع سخرية المراقب أو استهزاءه، تتحول شخصيته كلياً، هو الوحيد الذي يدرك الحاجة إلى الحب، فالمُراقب والمراقب ضحايا النظام، وكلاهما يدرك معنى الشعور بالحب الحقيقي في فضاء غرفة التحكم الجرداء، أو الحبس خلف مقود السيارة طيلة النهار. يتوحدان في الإيمان بفقدان المشاعر الحقيقية، ويبدأ المراقب يحلم بمرافقة العشيقين الجديدين في جولة سيارة الأجرة، وفي رحلة سفر إلى جزر بارابوس. بينما يرجوه السائق عبر المذياع: “أرجوك لا تتركني”، أصبح كل منهما يحتاج إلى وجود الآخر. في الفيلم القصير الذي أخرج عن المسرحية عام 2003، تدمج الكاميرا وجه المراقب ووجه سائق التاكسي في هذه اللحظة، كأن الحب وقع بينهما: “أرجوك لا تتركني”. لتبين وحدة الحال بينهما، إنهما من ضحايا النظام الرأسمالي والعزلة وانعدام التواصل. هذا ما يركز عليه نص هارولد بنتر.
أما الرؤية المضافة من المخرج (يامن محمد) فتحيل إلى الحالة السورية، كتب يوضحها الناقد (أنس زرزر): “تتحول وسيلة الاتصال إلى حالة تكشف عزلة البشر، والدوافع الإنسانية شبه المعدومة التي تسيّر حياتهم. في مكتبه البعيد، يتعامل المراقب مع السائقين من موقع السلطة المطلقة، لكن في لحظة غير متوقعة، يكشف للسائق رقم 274 عن حقيقته الإنسانية البسيطة، وحاجته إلى الخروج من عزلته. الإسقاط على الأحداث السورية، عولج برشاقة وعفوية عبر تخليص النص من عبثتيه المفرطة، وإبراز حالة انفصال السلطة التي جسّدها المراقب، عن البسطاء الممثلين بشخصية السائق، والعلاقة بين مركزية السلطة والعشوائيات التي احتضنت بداية الاحتجاجات الشعبية”.
المخبر الصارم في غواية الفنون والقصائد
ربما تتربع حكاية الفيلم الألماني “حياة الآخرين“، للمخرج فلوريان هنكل فون على قمة قصص المخبرين المعاصرة، فالفيلم حاز جوائز عالمية وتقييماً ممتازاً من النقاد. تدور الحكاية في ظل النظام الألماني الاشتراكي، فيكلف المخبر الماهر “فيزلر” بمراقبة الكاتب المسرحي جورج دريمان، وزوجته الممثلة كريستا ماريا سيلاند، يكلف بالمهمة من وزير الثقافة، فُتزرع شقة المسرحيين بأجهزة التنصت، ليعيش المخبر سنوات بصمت في الطابق الأعلى للشقة من البناء، تتجاور يوميات الشخصيات، ويتعرف المتلصص إلى أحاديث هذا الثنائي المسرحي، يبدأ المخبر بالتأثر بطريقة الحياة والجدالات الناشئة بين الزوجين، لقد جذبه الفن.
ألحان البيانو عبر أجهزة التنصت
يشبه الناقد السينمائي الإنكليزي بيتر برادشو التغير الذي تشهده شخصية المخبر في الفيلم: “بالتحول من الشخصية المحترفة للشر، إلى شخصية منخرطة في العاطفة والمعاناة والشبق في علاقة الحبيبين، وبالأخص متأثرة بمقولات الفن، ويعي المخبر (فيزلر) عدم وجود أي قيمة مهمة لحياته الشخصية”. فيبدأ من بعدها باستخدام خبراته المهنية لحماية الثنائي المسرحي، يحمي النجمة المسرحية أي الزوجة من ابتزاز وزير الثقافة، ويكتب تقارير بلا معلومات قيمة عن المخرج والكاتب المسرحي زوجها. اشتهر من الفيلم المشهد المتقن حيث يبكي المخرج المسرحي على موت صديقه المسرحي المعارض الذي مات منبوذاً، فيدفعه الحزن لفقدان زميل مشوار المسرح الطويل لعزف الألحان على البيانو، الذي تنتقل نوتاته عبر أجهزة التنصت تنقل للمخبر المشاعر، تتالى الألحان، وبينما كان فيزلر يراقب “أعداء الاشتراكية” يأخذ بالبكاء، مشهد بارع التأكيد عن تأثير الفن في المخبر المهني.
تروي الكاتبة لينا سنجاب حكاية مماثلة في مقالتها المنشورة في موقع Newlines Magazine، والتي تتناول تجربة ثقافية فنية في دمشق بين عامي 2008-2011، منتدى “بيت القصيد” الشعري الذي شكل مساحة ثقافية شعرية لتقديم أصوات شعرية جديدة، لكن هذا النشاط الأسبوعي ما يلبث أن يثير اهتمام الأمن السوري عندما قرأ احدهم في إحدى أمسياته قصيدة باللغة الكردية الممنوعة في دمشق، فأصبح يحضر الأمسية الشعرية باستمرار مراقب من المخابرات راح يعبر إلى ذائقته، ومع تكرار الجلسات الأدبية، وكما هو الحال في فيلم “حياة الآخرين”، فإن بوادر اندماجه في الجو الثقافي بدأت تظهر، وراح المخبر المتزمت يبدي تفاعلاً مع عالم القصائد الذي يفترض أن يراقبه ولم يعد يخفي متعته بسماعها. حكاية أخرى عن قدرة الفن على تحويل عين المخبر من الرقيب إلى الرهيف، من القسوة إلى السحر الفني.
أنسنة المخبر، والدوافع الاقتصادية والثقافية
كيف لا يتأثر المخبر بالفنون، وهي القادرة على تبرير أفعاله والبحث عن الأسباب الاجتماعية خلفها؟ فميزة الفن بالبحث المستمر عن دوافع الشخصيات سواء كانت الضحية أو الجلاد، وهذا ما يحققه الفيلم القصير “خطوة بخطوة” للمخرج أسامة محمد، الذي عرض مجدداً في مهرجان coculture. طبعاً، لا تحضر في الفيلم شخصية الواشي أو المخبر، إلا أن الفيلم يروي لنا الواقع الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي لقرية الرامة السورية في السبعينات، عبر طفولة أخوين شابين من منطقة جبال الساحل السوري. تنقل لنا خيارات الكاميرا وقائع من الحياة اليومية لعائلة تعيش وتعمل في هذا الريف الزراعي، البعيد من المراكز الاقتصادية، المهمش، حيث لا تزال الحياة اليومية صراعاً ومعاناة مع الطبيعة، تعبر عنها الكاميرا بالقسوة مع الحيوان الزراعي، وحيث يعمل أطفال العائلة بالفلاحة والزراعة التي تسرق وقت القراءة والدراسة، وحيث يصعدون الأميال من المرتفعات والأراضي الطينية للوصول إلى المدرسة مبللين بالطين ومتأخرين. شرط حياة التلاميذ هذا يجعلهم عرضة للتقصير في فروضهم المدرسية. وكما كان الطفل يسوط الثور لحرث الأرض، يتلقى الطفل صفعة على خده من المعلم الأستاذ.
لا أمل للطفلين بمتابعة الدراسة، لا مستقبل، يعبر المخرج عن هذا اليأس رمزياً بلقطات لشاب غاطس القدمين في الماء بتعبير عن السقوط والضياع واللاجدوى، ونتيجة لهذ الطفولة يتفرغ الأخ الأول للزراعة للعمالة بالبناء كمياوم، والآخر يدخل في الجيش. إنها طفولة “مخبر”، الأسباب وراء خياره أن يسعى لهذه المهنة. في الحوار الأخير في الفيلم مع المجند، يسأله المخرج: “ماذا لو طلب منك أن تقصف أهلك، تقود الدبابة إلى القرية لأن عائلتك من المعارضين؟”، يجيب: “لا يمكن رفض الأمر العسكري، حتى لو كلف الأمر موت عائلتي أو موتي، مصالح الدولة هي العليا حتى على عائلتي. إذا شتم أخي الحزب أو صنع ما يعارض الدولة، بحط الفرد براسو، بضحي فيه”.
(درج)