أنور بدر
رئيس التحرير
مجلة أوراق العدد 12
افتتاحية العدد
كانت الثورة منذ البداية فكرة وطموح وتوق للحرية وللتغيير وتمرد على الواقع وسلطة الاستبداد والفساد، وهي في كل ذلك لا تأتي من فراغ، أي أنّها تحمل أسبابها ومبرّراتها في ذاتها، ومع ذلك لن تكون الثورة أبداً قادرة على الانتقال من مستوى الفكرة والطموح ومن حيز الرغبة بالتمرد إلى حيز الواقع والممكن إن لم تتوفر ميكانيزمات وآليات ليست إرادوية، وهي غالباً غير قابلة للسيطرة أو للحسابات الفيزيائية والزمنية، وهنا تَظهر مساوئ القياس على الانقلابات العسكريّة التي أصرّ جنرالاتها خلال العقود السابقة على اعتبارها ثورات، وتقدّمية أيضاً..
ولأنّ ميكانيزمات وآليات الثورة ليست إرادوية ولا تخضع لتوقيتات ومقاييس انقلابية، نستطيع فهم عجز كل محاولات التغيير التي اشتغل عليها السوريون وقواهم السياسية لعقود طويلة، فيما كانت شرارة البوعزيزي وحدها في تونس مطلع عام 2011، كافية لإشعال انتفاضات الربيع في أغلب دول المنطقة وصولاً إلى سوريا، ولاحقا في موجه ثانية شملت السودان والجزائر ولبنان والعراق أيضاً.
ومن المحزن حقاً أن كل تلك الانتفاضات أو الثورات عجزت حتى الآن عن تحقيق أهدافها التي انطلقت من أجلها، سواء في مستوى الحصول على الحرية والكرامة، أم لجهة تأمين عدالة اجتماعية وحد أدنى من الأمان الاقتصادي والمعيشي، أم لتغيير بنى الاستبداد والفساد إلى دولة المواطنة المتساوية، وهذا لا يؤشر إلى فساد فكرة الثورة، بقدر ما يؤشر إلى فساد هذه الأنظمة الشمولية التي التهمت الدولة والمجتمع، وإصرارها على البقاء بأي ثمن، حتى لو أدى الأمر إلى تدمير مجتمعاتها وأوطانها، عملاً بمقولة “الأسد أو نحرق البلد”، كما يؤشر ذلك أيضاً إلى هامشية السرديات الغربية فيما يتعلق بحقوق الإنسان والدفاع عن الحريات العامة للشعوب.
ففي البدايات كنا مانزال نحفظ أسماء الشهداء وتواريخ المجازر التي ارتكبها النظام، ونحلم بيوم أفضل لسوريا ولكل السوريين، وفيما بعد أصبح مؤلماً جداً بالنسبة لنا أن يتحول الضحايا إلى مجرد أرقام في عداد الموت الذي لم يتوقف حتى الآن، رغم توقف المنظمات الدولية عن العد بعد السنة الثالثة، فحساب الخسائر والانكسارات وخيبات الأمل، قتل الإحساس بفداحة ما يجري، لدرجة أن المفوضية الأوربية تعتبر أن سوريا الآن لم تعد على جدول الاهتمامات العالمية، رغم تأكيدها أن أكثر من 60 % من السوريين أضحوا في خانة انعدام الأمن الغذائي، ناهيك عن أعداد النازحين واللاجئين، وربما يشكل قرار المفوضية الأوربية محاولة لتخفيف العبء النفسي والضغط العاطفي تجاه انتقال الصراع من مستوياته السياسية إلى مستويات اقتصادية مع انعدام كل أسباب الحياة ليس في سوريا فقط، بل وفي المنطقة عموما.
الإشكالية بسيطة بالنسبة للمعايير الغربية، فالأسد يقتل شعبه ولا يقتل الأوربيين وفق تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، دون أن يستطيع الربط بين قتل الأسد لشعبه وبين عمليات انتاج وتصدير قتلة وجهاديين إلى العالم كله، إلا أن ذلك ينسجم مع مشاريع كثيرة لتفكيك المنطقة بعدما غدت دولها فاشلة بكل المعايير الاقتصادية والإدارية والاجتماعية والسياسية، فسوريا “بلد الرمال والموت” وفق تعبير ترامب غير المأسوف على مغادرته البيت الأبيض، مع أن بديله جو بايدن لم يستطع حتى الآن أن يرى سوريا وباقي دول المنطقة إلا كجزء من صفقة التفاوض مع إيران.
لدول العالم دائما حساباتها التي تنبع من حيّز مصالحها لا أكثر، لكن هذه الحسابات لن تكون مقنعة للسوريين الذين عاشوا المقتلة وخسروا الكثير من أجل أن لا يستمر طغيان هذا النظام، والسوريون لم يعودوا يملكون الآن ما يَخشون فقدانه وفق الاستعارة الماركسية، إذ أصبحنا كشعوب خارج حسابات العالم المتحضر، لكنّ هذا العالم المتحضر اكتشف مؤخرا مع ثالث مبعوث دولي لسوريا، وربما يكون الأسوأ في هذه المهمة “ستيفان ديمستورا”، لكن بعد مضي سنتين ونيف على مغادرة موقعه، أنّ سوريا لم تعد في خطر حرب شاملة، لكنها ما تزال في خطر الانهيار، مضيفا أن “بشار الأسد ربح تقريباً الحرب في سوريا، لكنه لا يزال بعيدا عن ربح السلام”، وهو ما يسبب قلق داعميه الطامحين لإعادة جني فوائد استثماراتهم التي دفعوها لتحويل الثورة إلى حرب أهلية.
وفي النهاية يستطيع العالم أن يكون مطمئنا، لأنّ الثورة باقية ببقاء أسبابها المستمرة منذ خمسة عقود ونيف على ديكتاتورية هذا النظام، وأنّ السنوات العجاف التي عجزت فيها شعوب المنطقة عن تحقيق أحلامها بدولة المواطنة المتساوية وفي الحرية والكرامة، لن تستطيع اغتيال هذه الأحلام ثانية، حتى لو نجحت مسرحية إعادة انتخاب بشار ثانية وثالثة، فالشعوب هي التي تبقى في النهاية بعد أن يرحل الطغاة، وأختتم بعبارة الصديق حسان عباس الذي رحل قبل أيام من هذه الذكرى حين كتب بذات المناسبة عام 2014، مستعيرا عبارة غاليلو الشهيرة “ومع ذلك … فهي تثور”.
ومع أن البعض يمكن أن يجادل بأن الثورة انتهت أو سرقت أو تحولت إلى حرب أهلية أو سوى ذلك من المصطلحات، فإن ذلك لا يغير من حقيقة راهنية الثورة واستمراريتها كفكرة وكطموح وكضرورة لصنع حياة أفضل لسوريا وللسوريين.