«منذ سنوات والجامعات تغرق في التفاهة، من خلال تسليم نفسها لإغراء العلاقات التجارية، جدل الزبائن والسلعة أدى إلى إفساد البحث العلمي»
ألان دونو
تنطلق هذه القراءة من كتاب «نظام التفاهة» للفيلسوف الكندي ألان دونو، والكتاب رائع من عدة جوانب: عميق ومرح، يبدو أن مؤلفه كان يستغل التهكم السقراطي، ذلك أن السخرية والتهكم وتمزيق الحجاب عن الحقيقة أهم مميزات أسلوبه، ولذلك يمكن اعتبار كتابه منتميا للفلسفة النقدية، كما أبدعها كانط وطورتها مدرسة فرانكفورت مع أدورنو وهوركهايمر في كتاب «جدل التنوير»، لكن في أي معنى يمكن تفسير فشل البحث العلمي وضعف الفكر النقدي في الجامعات بواسطة مفهوم التفاهة؟ وكيف أصبحت التفاهة براديغم عصر بكامله؟ وهل سيطرة التفاهة على الجامعة قاد إلى ظهور الكفاءات وغياب المفكرين؟
سيكون أمرا مجحفا أن نختصر هذا الكتاب في هذه الأسئلة، خاصة أن مؤلفه قد تعب في جمع كل الفصول التي شكلت هندسة الكتاب، فبالإضافة إلى مقدمة طويلة وخاتمة، يتكون الكتاب من أربعة فصول، وكل فصل من عدة فقرات يجمعها أسلوب فلسفي جدلي هدفه إعادة الاعتبار للفلسفة النقدية، ربما يكون هذا السبب الذي جعل ألان دونو واحدا من أهم الفلاسفة المعاصرين. وبما أن غياب الفكر يعني ظهور الخطأ، فإن النقد يتوجه نحو هذا الخطأ الذي يتجلى في التفاهة، حسب ألان دونو، ولذلك يدعو إلى تفكيك المعنى انطلاقا مما يعنيه، وبمجرد ما أضحت التفاهة هدف الجامعات، تحولت الجامعات من نشر المعرفة والتنوير إلى السيطرة والاستبداد: «الباحثون التافهون لا يفكرون، إلا في أغراض الترقية المهنية، هم يفوضون قواهم الفكرية إلى سلطات أعلى تملي عليهم استراتيجياتهم». ومن السخرية أن الشخص التافه: «له قدرة على التعرف ببداهة على شخص تافه آخر.
معا، يدعم التافهون بعضهم بعضا»، بل إن التفاهة تشبه الوباء تنتشر بسرعة، لا تعاني من نقص لا بالقدرة ولا بالكفاءة، لقد تحولت إلى فن للعيش يجمع الأرواح الميكانيكية في براديغم جديد له القدرة على تدمير براديغم الأرواح العلمية، بلغة توماس كون، الذي أثر كثيرا في ألان دونو، لأنه إذا كانت الثورات العلمية لا ترى بالعين، فإن نظام التفاهة يعتمد على المظاهر، ولذلك فإن التافهين هم استمرار للسوفسطائيين، الأجر مقابل العمل، فوجودهم تحول إلى مجرد قوة عمل، بحيث يكون الأجر مساويا لما يحتاج إليه العمال لإنتاج قوة عملهم، كما قال ماركس الذي يحضر كالظل الكبير في هذا الكتاب، فثورة التفاهة غريبة الجوهر، فكل ثورة لها نموذجها الخاص المستمد من نظرة جديدة إلى العالم، والمتجسد في الحقل المعرفي لاتحاد العلماء، بيد أن ثورة التفاهة لا يجمعها براديغم واحد، بل براديغمات، نظرا لأن روح المنفعة تقود إلى صراع المصالح «إن التافه هو من ينجو بنفسه.. وللتفاهة فرصة أفضل في النجاح». بمعنى أن تلعب اللعبة، ينبغي أن تخضع لنظام التفاهة الجشع، هكذا تقتحم كهف الانتهازية.
ثمة إحالة في الكتاب على المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي يقول إن الخبير، هذا السوفسطائي الذي يدفع له لكي يفكر بطريقة معينة، إنه يتصرف ضمن إطار ميكانيكي: «حيث يقول إدوارد سعيد: «إن الخطر الذي يتهدد مثقف اليوم لا يكمن في الجامعة، ولا في التسليع الشنيع للصحافة ودور النشر، وإنما يكمن في موقف عام شامل سوف أسميه الهيمنة». كم هو مرعب أن تتحول التفاهة إلى نظام جديد لعالم العولمة تشجع على الإغفاء، بدلا من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري، إنها تحيلنا إلى أغبياء، «إلى درجة أن من يأملون بالأفضل صاروا يمتثلون للكلمات الفارغة التي يخلقها نظام التفاهة». ومع ذلك نتساءل، ما علاقة نقد التفاهة بنقد العقل وانهيار الفكر في الفلسفة المعاصرة؟ وهل استطاع صاحب كتاب التفاهة باستدعاء مفهوم النقد الكانطي حيث يقول إن عصرنا هو عصر النقد بامتياز؟ وإلا ما معنى أن لا شيء يستحق احترامنا إلا إذا كان متفقا مع العقل؟ وبعبارة أخرى، هل التفاهة تعني غياب العقل؟
*القدس العربي