(دفاتر الورّاق) للكاتب الأردني جلال برجس، والتي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية بدورتها الـرابعة عشرة لعام 2021، تبدو ومنذ البداية أشبه بأيقونةٍ لغوية، لعذوبةِ السرد وكثافته وقدرته السحرية على بثّ طمأنينة الأسئلة رغم سوداويتها.
هذه اللغة لا تنشأ من فراغ وإنما هي ثمرة بيئة تعبر عنها وتنفعل بها وتتجاوزها إلى فضاءات أخرى. وبطل الرواية “إبراهيم الوراق” الذي تشبّه بالفيلسوف اليوناني الشهير ديوجين الذي عاش طوال حياته في برميل، قضى حياته في (كشك الورّاق) يبيع الكتب، ليشابه في رمزيته ذاك البرميل، الذي اختبأ فيه عن العالم لخوفٍ زرعه فيه والده “جاد الله”، وراح يراقب الحياةَ كشاهدٍ حيادي يعاني من فقدان المعنى في زمنٍ تراجعت الثقافةُ فيه، لتحلَّ محلها أنماطٌ حياتية حداثوية أشبه بوجباتٍ سريعةٍ لا طعم لها، بينما يطلّ الفقر من كلّ زاويةٍ في يومياته الكئيبة في أشدّ أشكاله قسوة وبشاعة: “كنت أحدّقُ بالكتب كأنّي أمارس شكلاً صامتاً من أشكالِ الهروبِ نحو سنين حولتني إلى لوحةٍ نصفها أبيض ونصفها أسود”.
التحوّل
وما إن يفقد ملكيةَ الكشك الذي يتحوّلَ إلى متجرٍ لبيع الموبايلات، حتى تسقط الأقنعةُ من حوله، لتتضحَ عوالمُ الفساد والإقصاء والخواء: “كيف لم يتسنَّ لكلّ تلك الكتب أن تجنبني ما حدث! لقد بنتْ لي عالماً اعتقدتُ معه أنّي عصيّ على السقوط لكن لمجرد أن فقدتُ بيتي سقطتُ.
ومن هنا تستثمر الروايةُ النقصَ الذي يعتري جسد الأمكنة والأزمنة بألاعيب سردية جميلة، فتكشف ماهية ما تشربناه كمجتمعاتٍ عربية، من بدهياتٍ أو مقدسات. عندما تُنزَل الطبقات المخملية من أبراجها العاجية ليقفَ أصحابها جنباً إلى جنبٍ مع الفقراء والمهمشين. فيتساءل القارئ عن ماهية اللصوص الحقيقيين: “الفقراء الذين يسرقون ليأكلون أم الأثرياء الذين يسرقون أوطاناً بكاملها؟”.
وكلّ ما يحتاجه القارئ للحصولِ على أجوبةٍ هو فحص خيوط القطبة المخفية في حبكةٍ درامية يشوبها التشويق والغموض، لمعرفةِ أين يكمن النسغُ الأخضر في شجرة الحكاية.
من هنا تنزلق الروايةُ بقرائها إلى قيعانِ مدينةٍ تشهد تمدداً عمرانياً، بينما يعاني الكثيرون من التشرد، ليطلَّ جحيمُ الأسئلة من علوّ شاهقٍ.
إنها كتابة لا شكّ تأبى أن تقوقعَ نفسها داخل الأفكار المجانية، بينما يبدو إبراهيم الوراق، وهو ابن الخسارات المتتالية، الشاهدَ الوحيد على مخاضاتِ مدينةٍ متخمةٍ بفقراء لهم رائحة خاصة كروائح الألبسة المستعملة. وأكثر من هذا يبدو ضميراً حياً يحاكم مختلفَ المرجعياتِ الفكرية والثقافية والاجتماعية التي يؤسس عليها النص، فيطرح أسئلةً تلقي الضوء على قهرٍ يتفشّى كوباءٍ، في زمن يتغير بشكل متسارع، وتتراجع فيه القيم الأصيلة: (الإنسان، الثقافة، الوطن، الحياة)، لتترسخَ أزماتُ الفقرِ والخوف والتشرد والقمع ولعنة الانتماء والهوية. “كيف لرجلٍ أن يؤمنَ بوطنٍ لم يمنحه لابنه؟”.
ويتصاعد الحدثُ الدرامي عندما يفيض القهرُ على جانبي حياة البطل، الذي يترك بيته لعدمِ قدرته على دفع الإيجار. على إثر ذلك يقررُ الانتحارَ يقيناً منه أنّ فضاءَ الموت فرصةٌ للذهاب نحو البياض المطلق. ثم يحجمُ عنه عندما يلتقي السيدة “نون”، التي يقع في حبها منذ اللحظة الأولى ليتضح لاحقاً أنّها (ناردا) طليقة والده المتوفى جاد الله.
اختلاف العوالم وتداخلاتها
بعنايةٍ أنيقة يفرد الكاتبُ همومَ كلّ شخصية، لتتداخلَ بشكلٍ تلقائي مع عوالم الشخصيات الأخرى
في الرواية سردٌ شيّق يجعل القارئ يتأرجح على جروف خطرة، وفي القاع تتأجج الصراعات الإنسانية والأخلاقية، باعتبار جميعها مظاهر الحقّ الذي يحاول النصُّ أن يتبناه ويدافع عنه.
وبعنايةٍ أنيقة يفرد الكاتبُ همومَ كلّ شخصية، لتتداخلَ بشكلٍ تلقائي مع عوالم الشخصيات الأخرى، بداية من إبراهيم الوراق الذي يتقاطع مصيره مع السيدة نون التي تعاني أزمةَ الانتماء إلى مجتمع تقليدي يجرّم المرأةَ الحرّة، ثم ليلى التي تعاني أزمةَ الهوية بعد خروجها من الميتم، ثم علاقته بأبيه، الشيوعي والمعتقل السياسي لمرتين، الذي يعاني بدوره أزمةَ الخوف وانعدام الثقة مع الآخر: “كنتُ تراباً نقياً من الحصى فعجنه والدي بماء الخوف، خوف لا أدري للآن كيف تلبّس كلّ شيء حتى وصلتُ مرحلةً ملأتِ العتمةُ فيها روحي”. في وقتٍ يعمل فيه الكاتبُ على توظيفِ الألم بسخريةٍ بجعلِ بطن إبراهيم الوراق يكبر كامرأةٍ على وشك الولادة، ليتساءل الأخير: “من الذي ضاجع روحي لأبتلي بغريبٍ يدفعني لما ما أريد”. فيردّ الصوتُ الذي تسبّب في الانتفاخ: “لم آتِ إلا جراء شروخ وندوب وضعف يعتري روحك، هذا العالم يراد له وحش يخرج في الليل ويقتنص طرائده، وفي النهار يظهر للناس ما فيه من حمل وديع”.
تحوّلٌ آخر..
وتتغيرُ أقدارُ البطل بعدما يلتقي مصادفة، وتحت جسر “عبدون”، شابة متشرّدة تتنكر بثيابِ رجل. هي ليلى الخارجة من الميتم والملاحقة بعيونِ الشهوة في مجتمعٍ ذكوري. وبعدما يكتشف قسوةَ الحياة التي تعيشها مع أترابها في غرفةٍ حقيرة ومهملة، يتصاعد صوتُ القهر داخله، ليتّسمَ بحضورٍ غير محتشمٍ في النصّ، ينبثق من سلطةِ الظلم المهيمنة، كنبرةٍ دفاعية فرضت مشروعيتها في مجتمع المقهورين والمسحوقين. ينفجر بعد صمتٍ استمر سنيناً تحت ضغطِ السلطة العنيفة الإكراهية: “في هذه الحياة عليك أن تكونَ ألف شخص لتعيش، حينما تضع رأسك على وسادتك كن أنت لأنك في هذه المساحة لن تحتاج لأحد غيرك”.
هكذا يغدو الصوتُ سلطةً قائمة بحدّ ذاتها، وعبر تأسيسٍ تدريجي يتطور تصاعدياً، باحثاً عن اللحظة المناسبة للانفجار، يتحوّلُ البطل إلى لصٍّ مقنّع يسرقُ البنوك والبيوت، ثم إلى أيقونةٍ تثيرُ الكثيرَ من الأفكار والتكهنات والآمال، يمتدحها ويمجدها ويتعاطف معها الفقراء: “أيها المقنّع يرونك كذئبٍ تعدو في ليل المدينة، تغير وتسلب وتتسلل إلى منازل الفقراء وتلقي لهم حصتهم مما يفتقدون، يرونك مبضعاً يجترح دماميل توجع أرواحهم ومنجلاً يحصد شوكاً أمام أقدامهم العارية”.
تقمّصُ أبطال الروايات
وكثيراً ما سُحر البطل بشخصيةِ الشاعر المجري (أتيلا يوجيف) الذي انتحر تحت عجلاتِ القطار، لكنه لم يتعلم منه كيف ينتصر على خوفه. وجلّ ما فعله إبراهيم الوراق أنّه هرب من نفسه إلى تقمّصِ شخصياتٍ عثر عليها في الكتب. فمن شخصية “سعيد مهران” في رواية اللص والكلاب، إلى “كوازيمودو” في رواية أحدب نوتردام، إلى ميشكين في رواية الأبله لدوستويفسكي إلى سي السيد أحمد عبد الجواد بطل ثلاثية محفوظ. وكان كلما فرغ من واحدة ذهب إلى أخرى لينجز سرقاته. وتكمن عبقرية الكاتب، في جعل الوقائع ملتبسة فيما يخصّ ماهية الشخص الذي ارتكب جرائم القتل بحقّ الشخصيات التي تشكل الجانب السلبي في محيط الرواية، أمثال إياد نبيل وعماد الأحمر ورناد محمود، كذلك جاد الله الذي انتحر في مطبخ بيته: (أقسى أشكال الوجع أن يكتشفَ الواحد منا أنّ حياته تشكلت على نحوٍ لم يكن لنا يد فيه).
روايةٌ لا شكّ كثيفةٌ تعجُّ بشخصياتٍ من لحمٍ ودم، يشعر بها القارئ تتنفس حوله بينما لهيب الفقر والقهر يلسع جلده. لتمنح كلّ متلقٍّ سيرته الذاتية الصرفة. وإذا كان من مهامِ شيطان الكتابة أنْ يسطرَ ملامح العدالة الناقصة في مجتمعاتنا العربية، بلا ستار جاهز، أو أقنعة متغيرة، في وقتٍ يتلفع فيه الإنسان بالصمت والانهزامية، فهذه مهمة جليلة لا شكّ: “كنتَ تشتكي الصمت وكلّ ما فعلتُه أنني فجرتُ صمتكَ هذا، وعليك أن تدمر ما تبقى منه“.
*تلفزيون سوريا