عبّر كافكا بداية القرن الماضي عن الإنسان الشيء؛ الذي فقد القدرة على التمسك بإنسانيته، حتى بات غير مستحق أبسط الأمور المعبرة عن وجوده، مثل الاسم، فاستخدم له الأرقام مرة، ومسخه حشرة مرة أخرى!. فتح كافكا بذلك الباب على مصراعيه أمام إنسان حديث لا يمت بصلة للإنسان السابق، وبقي هذا الباب مشرعاً أمام التجارب الروائية منذ تلك اللحظة.
وحين كان لكل عصر متغيراته السياسية والاجتماعية والتكنولوجية، أصبح من الطبيعي النظر إلى الشخصية الكافكوية من زوايا جديدة، كالنظر إليها من عين إنسان هذه اللحظة؛ الإنسان شبيه الآلة، وهذا تحديداً ما عبر عنه عمل نجوى العتيبي الروائي الأول «رفُّ اليوم… ما لم يستطع السيد الحصول عليه» والصادر عن «دار أثر» عام 2022.
تقوم الروايات ذات النسغ الكافكوي في الغالب على ثلاثة محاور؛ تحيل بشكل مباشر إلى عالمه الروائي، هي: البيروقراطية، واغتراب البطل، والبطل المطارد، كما يمكننا ملاحظة بعض العلامات السردية الأخرى شديدة الوضوح، التي لا تخطئها العين، مثل تسمية الشخصيات بالأرقام، أو الأحرف، في دلالة على «تشييء» الشخصيات الروائية، وكل تلك المحاور والعلامات متوفرة في رواية «رفُّ اليوم»، وإن كانت الثيمة الأساسية للعمل معتمدة على محور «البطل المطارد»، الذي أطلقت عليه الكاتبة اسم «9ك»؛ إذ يعيش حالة مطاردة مستمرة، وكما لدى كافكا؛ فالمُطارِد لا يتم الإفصاح عنه، أو يكون مموهاً لا يدل عليه إلا قدرته السلطوية الضاغطة.
وتأتي مطاردة بطل الرواية «9ك» ضمن حالة مضجرة من الارتباك والترويع، فالبطل لا يستطيع أن يفهم سبب المطاردة، التي ينتبه لخطورتها صديقه «35م»، ويخبره عن بعض آليات مراقبة تلك السلطة له، من خلال عينيه اللتين تنقلان وقائع حياته لتلك السلطة، فلا يكون في مأمن من المطاردة إلا حين يقوم بعصبهما، فما إن يعصبهما حتى يظهر له رجال السلطة في شخصية الضابط «4ب»، وهذا يذكرنا بمحاكمة كافكا تماماً، وإن كانت رواية «رفُّ اليوم» تتمتع بخصوصية خطابها، إلا إنها تستثمر المكونات السردية الكافكوية، في محاولة لإحياء عوالم كافكا الروائية، التي تستيقظ في السرد الروائي مع كل تغير كوني.
إذا كان صنع الله إبراهيم في روايته «اللجنة» قد استثمر المكونات السردية الكافكوية في تعبير عن الضغط السياسي في تلك المرحلة، فإن نجوى العتيبي في هذه الرواية تناوش الشخصية الكافكوية من جهة أخرى، تعبر صراحةً عن نوع جديد من الضغط على إنسان هذه اللحظة، وهو ضغط الرقمنة، وهيمنة الذكاء الصناعي، تقوم بذلك من خلال سرد متشظ، وحكاية لا مركزية، وشخصيات مهشمة، ففي «اللجنة» كان المُطارِد هو السلطة السياسية التي حولت الإنسان إلى كائن مذعور، تنتهي به الحال إلى أكل نفسه تعبيراً عن حالة اللاجدوى، بينما لدى نجوى المُطارِد هو العين الزجاجية التي لا تفتأ تلاحق بطلها من خلال وجوده نفسه، وتحيل حياته إلى جحيم رقمي يجعل الشخصية تتشكك في شكلها الإنساني، فتظل تبحث طيلة العمل عمّا يؤكد لها حقيقتها الإنسانية، مما يجعل من البطل شخصية مقسومة بين زمانين؛ زمان حلمي يستدعيه من خلال الذاكرة الحية، وزمان واقعي مُرَقْمَن لا يستطيع من خلاله رؤية الأشياء بشكلها الطبيعي، فيستحيل الشجر والعشب والماء والأصدقاء إلى منتجات رقمية، تحيل إلى الآلة أكثر من إحالتها إلى الوجود الإنساني في صفائه.
وإذا كانت الشخوص الإنسانية تتحرك روائياً في مكان معين، محدود بجغرافيا واضحة المعالم، فإن الرواية الحديثة، خصوصاً رواية الخيال العلمي، تميل إلى جعل المكان مجرد فضاء هلامي، ورواية «رفُّ اليوم» من تلك الروايات التي تتعامل مع الفضاء الروائي بهذه الطريقة السوريالية، فجميع الأماكن في الرواية أماكن يمكن للآلة التحرك ضمنها، فهي حين تحيل إلى نظافة غرفة البطل رغم بعده عنها لمدة من الزمن تنبهنا إلى بقائه نظيفاً وغير مغبر، في إشارة إلى الرؤية الزجاجية للإنسان الحديث، الذي يعيش في واقع افتراضي يتكون من خلال النظرة المتصلبة إلى الشاشات والسطوح الرقمية.
وهذا التصور موجود في كل زاوية مكانية داخل العمل: المتجر، المقهى، المستشفى… حتى مكان القمر المعلق في السماء، ينظر إليه البطل من خلال تصورات لها علاقة بالمكان داخل الكادر اللوحي، الذي يذكرنا بالمواد الفيلمية المصورة، والتي تبهرنا بجماليتها وصفائها.
إن ما يميز هذه الرواية، رغم اعتمادها على المكون الكافكوي المستهلك في عالم الكتابة الروائية، والذي يميل في غالبه إلى الدستوبيا، هو شعرية اللغة، فالرواية كونت معجمها اللغوي من خارج اللغة الروائية المعتادة، وفي هذا شعرية جديدة، تميل إلى اختطاف المصطلحات الرقمية، ثم تعيد الكاتبة تكوينها ضمن مكون جمالي لغوي حديث يستوعب الحظة الآنية، وهو بذلك يتميز بفرادته وغرابته في آن، ولننظر إلى مصطلح «منتج صديق» على سبيل المثال، ونلاحظ ما فيه من طاقة شعرية غرائبية، وبلاغة متجاوزة داخل اللغة السردية.
ولو ذهبنا نتتبع المصطلحات التي تحمل المكون السردي البلاغي نفسه؛ لوجدناها مبثوثة في المتن لدرجة تلفت انتباه المتلقي، وتجعله يقرأ النص ويتعاطى معه من خلال لغته الخاصة، «إنترنت الجسد – حدس الآلة – الماء الرقمي – لغة آلية»، فمن خلال هذه المصطلحات ذات البعد الشعري الجديد، يمكن للنص الروائي أن يكون تصورات ورؤى ذات مختلفة وخاصة، تمكننا من النظر بجمالية لتلك النبتة التي اقتناها البطل، ذات القوام الأنثوي، والتي لا تحتاج إلى الماء بقدر حاجتها إلى الكلام.
هذا النوع من الرؤى المبثوثة في النص ما كانت لتتكون لها شعرية خاصة دون تأسيس معجم لغوي، يجعل للعمل الروائي خصوصية، ويدخل المتلقي في حالة قرائية مختلفة تجعله يوسع مناطقه الشعرية التي اعتاد عليها، ويزج به في مناطق شعرية جديدة عليه، يستشعر جماليتها ولا يستطيع أن يدفعها بعيداً عنه، وهذا في اعتقادي عمل في غاية التعقيد والدقة، خصوصاً في اللغة السردية، التي تميل إلى الانبساط والتشعب، لكن الكاتبة استطاعت ببراعة أن تقبض على هذه الحالة الشعرية.
*الشرق الأوسط