عبد اللطيف الوراري: في ذكرى أمجد ناصر.. الشعر وما يترتّبُ عليه

0

1. رؤيا سندباديّة:

عندما غادر الشابّ القروي العشريني يحيى النميري النعيمات (1955- 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) بلدته التي تقع في أطراف البلد نحو العاصمة عمان، لم يكن يدري أنّ الطريق إليها، ثم إلى غيرها من عواصم العالم حتى حاضرة الضباب، بذريعة الكتابة والانخراط في حياة ثقافية وإعلامية واعدة، قد تكون نَهْبا لأطماع قدميه؛ فقد كانت السماء وقتئذ تتلفّع بالغيوم التي تنذر بكل شيء، وبالأدخنة الساخنة التي تطلع من أراضي الحلم العربي، أو تغشى رموز البعث الحضاري التي تغنّى بها الشعراء التموزيون وغيرهم؛ من لبنان والعراق واليمن ومصر. كانت الطريق التي سلكها تمتلئ بمشاهد «الأرض اليباب» بإيحائها الإليوتي، وبطوابير النازحين الفلسطينيين، الذين هُجّروا من بلادهم بالنار والحديد، على نحو بات يكشف عن واقع إقليمي ممزق ومشرذم وسط تحديات جيوسياسية متراصّة، لكنّه لم يتراجع، ولم يندب خيبات الرفاق ومواجع شعراء النبوءات الكبيرة، وواصل المغامرة من انحراف إلى آخر، وكانت تتشكّل في قرارة نفسه تلك الشذرة اللغز التي أفصح عنها ذات منفى آتٍ:
«خفتُ أن أتلفّت ورائي فأراني».
ليس وجود الأنا محكوم بوجود الآخر فحسب، بل كذلك مشروطٌ بِتحدّيه؛  وهو الذي بدّل بالاسم اسما آخر يومض برنين ورمزيّة صاعقة: أمجد ناصر. هل هو قدرٌ آخر للسندباد على «طريق الشعر والسفر»؛ قدرٌ قاس وأكثر رهبة؟
عندما أصدر «مديح لمقهى آخر» (1979)، دشّن هذه الرؤيا السندبادية التي سترافق كل مغامرات عمله الإبداعي شعرا وسردا، وهي رؤيا مرئية ومحسوسة وحادّة استعاضت عن أجنحة إيكاروس التي خبرها من قبله ومات بسببها، بـ«عينين نافذتين» مثلما أشار إلى ذلك سعدي يوسف في تقديمه للباكورة الشعرية، تخترقان ما هو سائد ومعطى، ولا تثقان في نتيجة الإثمار الفوريّ؛ أي ظلت بمنأى عن الشعارية الأيديولوجية، وفي المقابل كانت تستبطن داخل الاحتفاء بتفاصيل اليومي المحسوس، سياسات الدالّ الشعري؛ «حيث تشرع الكلمات في تأسيس معانٍ مختلفة عن المعاني المتداولة… المستنزفة» وفق تعبيره. وقد مثّل امتحانا أوّل لتجريب نظره الشعري في علاقته بالمكتوب، ستكون له ارتدادات جمالية خطيرة ليس على عمله الشخصي، بل على مجمل ما كان يُكتب خلال السنين المقبلة.

في مكان آخر، كان صلاح عبد الصبور قد شارف على نهايته المفجعة بعدما أحسّ بفداحة المشروع الرُّؤْيوي، وخذلان الرفاق، ولا جدوى «الصرخة في البرّية»، وترك للسندباد أن يوغل في الرحلة بدلا عنه، وكأنّي بأمجد هو صاحب هذه الرحلة الصعبة التي عليها أن تفتح هداياها ومفاجآتها الباقية للآتين، لأنها ليست لأحد بعينه، وهي لا تعني امتدادا لمشروع ما، بقدر ما هي تجاوز وانشقاق وعدم رضا، أو هي إيغال في منطقة المسكوت واللامُفكَّر فيه وكفى. «سندباد برّي» بتعبير عباس بيضون: في يده خطيئة ابن مقلة، وفي اليد الأخرى مصباح ديوجين، فما أكثف ليل الكتابة وأكذب نهارات الواقع!

2. من منفى إلى آخر، أو الشاعر في اللامكان:

بدا «المديح» بنبرته الاغترابية أبعد من أن يكون تصالُحا مع الذات في مكانها الجديد، بل بالأحرى كان نشيدا تأبينيّا لهواجس الذات التي انقذفت خارج المكان الأصل ووجدت نفسها قَسْرا في المكان «اللامكان» إذا صحّ أن نقول، فالمقهى مكان عبور لا إقامة، وبالتالي لا رجعة للذات عن المغامرة «هناك» في ما هي تمتلئ بقيم الحلم والغضب والتمرُّد للعبور إلى الطرق المنحرفة، ولسان حالها أن تزحف على «قلاع ودساكر العالم القديم». يوتوبيا، وفي جزء منها فطرة البدويّ وتذمُّره السريع من عالَمٍ يتحوّل، بل ينهار أمام عينيه:
«والشِّعر ينأى
وتنأى الأغاني
وينأى
الوطن» (بيروت، 4/ 1978)
يظهر أنّ هاجس الذات الواعية بمصير النّأْي القاسي المشترك قد أخذ يتبلور كخصيصة نصّية، بله حالة كتابيّة جوهرية، ابتداء من الدواوين «جلعاد كان يصعد الجبل» (1981) و«وصول الغرباء» (1990) و«رعاة العزلة» (1996)، ويرتفع بالعبور إلى كونه وسيلة عزاء، وأداة لاختراق المكان وبحث المفقود والمحلوم به باستمرار على نحو يجعل، الهُويّة بدورها مثار قلق وتغيّر دائمين، وهذا ما ينعته رشيد يحياوي بالرؤية العبورية (معابر أمجد ناصر، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، ط.1، 2010) بوصفها ضرورة وجودية في اختراقها الأمكنة والتعبير عن تشظِّيات الذات ورؤيتها للعالم المتبدّل، بحيث يتوقف الناقد عند المرجعيّات المكانية لعناوين كتب الشاعر ويعرض من خلالها تمثلات شعريته لأنواع العبور.. لهذا، نكشف عن قلق المكان لدى هذا الشاعر، أو قلق الشاعر بالمكان نفسه؛ فمن يتصفّح مجمل أعماله ينجذب منذ القراءة الأولى إلى إغواء أماكنه النصية، إذ هي متشظّية بتقلُّبات الذات الشاعرة، سواء بوصف هذه الذات شخصيّة في النص، أو ساردة للغتها وأماكنها، أو مُمثّلة صورة تخييليّة لأناها داخل الخطاب وعبره، بمعنى أنّ علاقتها بالأصل، أو بمرجع الواقع تتشكّل من جديد بواسطة فاعليّة التخيُّل (مجازا، استعارة، تشبيها، باروديا، حجاجا..)، ولا تكفُّ مع ذلك عن الإيهام بواقعيته بدون أن تكون مطابقة لها بالضرورة.
ومن هنا، يُنْظر إلى المكان بوصفه نظاما من العلامات تتشكّلُ من خلالها المقاصد التخييليّة للشاعر، إذ تتحوّل الذات النصّية إلى جزء من نظام العلامات المكانية، فتصبح دالّة على المكان بشساعته أو ضيقه، بمهاويه أو مرتقياته. وترتيبا عليه، تصير رؤية فاعل الخطاب للأماكن المُشيّدة رؤية ذاتيّة وحادّة مُتورِّطة في شكل انبنائه؛ فالمكان لا يمثل حيِّزا فارغا، بل فضاء للشخوص والأصوات والسياقات الحاملة للمعاني والأسئلة والمواقف المُعبَّر عنها. كان ثمّة في بداية الأمر تشاكُلٌ بين أمكنة البداوة والمدينة، قبل أن يتحرّر منه ويصير ترحاله بين المدن بحثا دائما عن هويّة مفتقدة؛ من الزرقاء إلى عمان، ومن بيروت بعد حصارها عام 1982 إلى قبرص حيث واصل العمل في إطار الإعلام الفلسطيني، ثم انتقل بعدها إلى لندن عام 1987 حيث شارك في تأسيس صحيفة «القدس العربي» وأشرف على قسمها الثقافي قبيل وفاته ببضعة أعوام. ومن ذات قلقة بسبب هاجس الغربة، إلى ذات تسعى إلى التحرُّر من سطوة المكان الغريب باللغة، كان يظهر أنّ مصير ذات الشاعر هو الرحيل/ السفر بوصفه أداة حقيقيّة لبناء الهوية المترحّلة عبر مفرداتها المكانيّة بين (هنا) و(هناك)، وأنّ رحلة الذات هي رحلة فُقْدانٍ لا بُدّ منها لاستعادة شكل- معنى البقايا التي تهجع في اللاوعي وتستدعيها نصّيا بعلائمَ وتلويناتٍ متنوّعة.

ومن الطريف، هنا، أنّ تلك المدن البعيدة لا تصل الذات إليها إلّا بالحلم وممكنات اللغة المجازية؛ ولهذا تظلُّ منذورة للمستحيل إلى أن تجد البديل، ولكنّها لا تجده. والأطرف أنّ اختراقها للأمكنة والتعبير عن تشظِّياتها يسمح للقارئ أن يكتشف سيرورات تشكُّل الرؤية العبورية القلقة لدى الشاعر، كما يكتشف ـ بموازاةٍ مع ذلك ـ عن أفعال العبور التي اختبرتها تجربته الكتابيّة وأقانيمها تحت أكثر من سماء، على صعد الثيمات والرؤى والأشكال، وبالتالي عن رؤيته للعالم والمحافل الدلاليّة والفكرية، التي عبّر عنها ووجد نفسه داخل أتونها، بدون أن يُفرّط في حريّة ذاته وأهواء لعبها باللغة:
العبور الجماعي، حيث تتأمّل الذات الفردية في مصيرها ومصير غيرها بصيغة الجمع؛
العبور نحو الشتات، وفيه تنتهي الجماعة إلى تلاشٍ؛
العبور التطهيري، يُمثّل فيه فعل العبور مطهرا وخلاصا وولادة جديدة؛
العبور بالخفّة، وهو عبور يستحوذ على شعريّة الشاعر، آخذا بمداركه لذاته وللكون والمكان؛
العبور إلى الجسد، وفيه يتخذ الجسد المكان هُويّة له فتنغرس فيه قيم الكائن ورؤيته للوجود.

3. العبور الأنواعيّ:

لقد بدا أنّه ليس هناك مكان غير قلق في كتابات أمجد ناصر، فأماكنه لا توجد إلا في اللااستقرار، واللااطمئنان؛ وهو رهان الحداثة نفسه، من عبورٍ إلى آخر في مضايق النصّ ورؤى العالم. وإذا كانت العبورات الخمسة الأولى تعنى بوصف الموضوعات والرموز والأحوال والتجارب التي يمتزج فيها اليومي بالمتخيّل، والفردي بالجمعي، عبر لغةٍ تواجه التصدُّعات وجها لوجه، وغير معنيّةٍ بالتجريد والأساطير الكبرى، فإن ثمّة عبورا آخر، نوعيّا وحاضنا لقلق التجربة، ينقلنا إلى سؤال التجريب بما يعنيه من قلق وحيرة، ومن مساءلة الكتابة نفسها؛ الكتابة بوصفها مكانا لعبور الأشكال وتجريبها. بيد أنّ هذا العبور لا يتمُّ في الأشكال، أو يخصُّ المكان البصري لشكل وجود الكتابة على الصفحة وحسب، بل يتمُّ كذلك بوصفه إمكانا لعبور الكتابة نحو تحقيق مغامرتها وارتياد مستحيلها، ليس فقط داخل شرط قصيدة النثر التي ابتدع فيها الشاعر أسلوبا غير مألوف، كما في «حياة كسرد متقطّع» (2004)، حيث القلق المكاني، وشعريّا خارج قصيدة النثر المشطورة وقصديّتها ومعمارها الشعري المألوف، بل كذلك قياسا إلى التوتُّر الأجناسي بين الشعري والسردي، أو الانتقال من نوع أدبي إلى آخر من الأنواع التي كتبها الشاعر: رحلة، يوميّات، مذكرات، رواية، شذرات.. وفي زعمي، أن التجربة برمّتها تفصح عن محفلين رئيسيين متساندين؛ إذ يمثل كل واحد منهما تأويلا للآخر:
– أوّلا؛ هي تمثل مهجريّة جديدة في أدبنا المعاصر، أخذت تتوسع في تلك الحقبة وانضوت تحتها أطيافٌ من الجوّالين الهائمين الذين يقتفون آثار عوليس والسندباد، بسبب من الوضع السياسي الجبري. وقد نشأت هذه المهجرية عند الشاعر منذ أن غادر وطنه وآثر المنفى والإقامة فيه اختياريّا ومواجهته له في حضرة رعب الوجود وقسريّته، منفيّا ومُطارَدا في أتون أسئلة المصير والهويّة الملغزة على نحو ما يولِّد لدى الذات الفردية رَقْصا على الأجناب بين الـ»هنا» والـ»هناك».
من منفى إلى آخر أكثر عرامة، مع ما ينطوي تحت هذا أو ذاك من مفهومات القلق والحيرة، والبحث بالمعنى الوجوديّ، وأشكالٍ من التغرُّب والتيه والإحساس بسؤال الكينونة، أو الموتيفات التي تُرْخي على ذات الكتابة وهويّاتها أبعادا وتأويلاتٍ متنوّعة، في سياقٍ مُعَوْلم وتستضيء باستراتيجية الحضور والغياب، لم يعد مهجر أمجد ناصر مهجرا بالمعنى القديم، لكنّه ليس المكان الذي تقلّ احتمالات عودة من يذهب إليه، ولا هو بمنأى عن مجريات الأحداث في بلده الأمّ. من هنا، ظلّ الشاعر في عبوراته يستثمر الهجرة كأفق للكتابة، بكيفيّةٍ توازيها قدرة الذات الكاتبة على التخييل والاندماج في مغامرة البحث عن نفسها، داخل فضاء تتجاذبه مطالب الهوية المفتوحة وجدلية الأنا والآخر غير القابلة للانفصام.
– ثانيا؛ هي تكشف عن ظهور وعي حداثي مضادّ، بارودي وساخر، لاذ باستراتيجيّاتٍ كتابيّةٍ ستعمل على تنويع مرجعيات الذات والنص والعالم؛ وذلك منذ أن انزاحت من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، ومنها إلى الكتابة عبر النوعيّة، فلم يعد يعنيها يوتوبيا الأنا الشعري التي اطمأنّت إلى خلق أوطان بديلة بالرمز والأسطورة، أكثر من اهتمامها باكتشاف مناطق تعبير جديدة، وجدت مُتنفّسها في أشكال من الاحتجاج الساخر والتهكُّم والمفارقة والمرح الديونيزوسي، كأنما هي تعويض عن «اللاشعور السياسي» الذي أعلن خروجه على طرق التعبير والبلاغة المستقرة، أو التي أصبحت سلطة في شكل قوالب وأنماط محددة. وإذا كانت بعض التجارب، قد ركّزت على الدالّ وأشاعت الغموض وعطالة الدلالة، فإنّ تجربة أمجد ناصر لم تهدم العلاقة بين دلّ وفهم، وظلّت الأدلة تحيل على مرجع ما، ليس ظاهر العيان، ولكن يتطلّب من قارئه بلاغة ما.
لقد ظلّ أمجد ناصر ماشيا بيننا منذ أربعين سنة، في طريق ملغزة لا تنتهي من «خبط الأجنحة»، يكتب مغامرته، ويُكبّ عليها من لحمه وروحه بلا كلل، ولا يعرف على أيّ أرض يقف، لأنّ مبدعا مثله كان على «عزلة الذئب»، وكان قلقا ومسكونا بشريعة البحث الدائب عن المعنى، أو ما بقي منه في عتمة المستقبل، ولأنّ قلبه كان مُفْعما بخضرة دائمة، لم يترك المصباح يسقط من يده ـ بسهولة- لحساب «راية بيضاء»، ولم يذعن لـ«حطام الوصف». وأمّا الخطيئة أمام الفظاعات الكبرى فليس لها سوى أن ترعى «دليل الحائرين»، وتعطف به إلى مكان آخر أكثر زُرْقة وشُسوعا لاحتضان مجهول المعنى:
«أريدُ أن أبلى هناك
في فجر الهباء الكبير
قانِطا
مُتصدّعا.
طويلا
أريدُ أن أنامَ
خفيفا،
إلى الأبد»

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here