عبد اللطيف الحسيني: عبدالرحمن عفيف..الشاعرُ ناثراً.

0

الكمان من أرقى الآلات الوترية ذات القوس. جسمُه من خشب القيقب والقوسُ من عود الخيزران مشدودٌ عليه خيوط من شَعر الخيل وصوتُه من أحنّ الأصوات.

ذاك تعريف للكمان الذي كنتُ أتدرّبُ عليه قبلَ أكثر من أربعة عقود، واقتنيتُ واحداً منه لأعيد بذاكرتي لتلك السنوات التي انطفأت من حياتي،غيرَ أنّي تذكرتُ ابنتي دارين التي طلبت مني ذات يوم تلك الآلةَ فأهديتُها إياها.

سمعتُ والدي يقرأُ شعراً يتوهّج بالخيال ثم مُستدرِكاً لأخي عبدالرحمن عفيف، ثم مرشداً له:

“النثرُ يُقرأ أكثرَ من الشعر,فالشعرُ متكلّفٌ مهما كان ناثرُه أو ناظمُه خبيراً بعوالم النثر والنظم، أمّا القصةُ أو الحكايةُ فيفهمها الكلُّ..حتى البسطاء دون إعمال واجهاد الفكر.

هذا ما دار بين والدي وعبدالرحمن المستمع إليه وأنا المتلصّص عليهما. سرقتُ نصيحة والدي مُذّاك أي قبلَ أكثرَ من ثلاثة عقود، وبقي عبد الرحمن أميناً لفضاء الشعر الخصب المتوهّج” وادي الديازيبام و نجوم مؤلمة تحت رأسي” ويبدو أنّ الزمن آنذاك كان زمنَ شعر فقط، فاستحوذ الزمن على أزمنة وأمكنة عبدالرحمن في مغتربه منذ ربع قرن, وبعد ربع قرن خطف عبدالرحمن ذاكرتَه القصصية للخلف ليكتب مناخَ القصَّ الكردي.. أو السوري في العموم، غيرَ أن الخصوبةَ تجلّت في منبته”عامودا وما حولَها”حيث المكانُ الأليف الذي يُعيد القاريء لألفته المفتقَدة ولأعشاش الطفولة والشباب الأوّل, هذا إن حوّرنا اسم البيت واستبدلناه بالعُش بحسب باشلار,فقرّاءُ في سيارة ابن صراف يفهم تفاصيل الكتاب ودقّة المكان وشخوص الحوادث، هذا إن كان القرّاء من جيل عبدالرحمن وما بعدَه وما قبلَه، فهؤلاء القرّاء هم المشاركون معَه في الحدث أو هم الذين أَمْلوا عليه، وإن شطح بيَ الخيالُ لقلتُ هم الذين كتبوا أجزاءَ و خلعوا وركّبوا قِطعاً لسيارة ابن صراف، أتذكر دوستويفسكي  حين أنهى إحدى رواياته جمع أصدقاءَه وقال لهم “أنتم كتبتم هذه الرواية ….لا أنا”

عبد الرحمن جرب ذاكرته التي عادت به إلى عامودا الثمانينّات. للصدق ما كان لعبد الرحمن ليكتب تفاصيل الحياة اليّومية إلا لأنه بعيد عن المكان، فالأمكنة تُستعاد أدق إن ابتعد عنها مدّونها.

لو قرأ جيل الألفين هذا الكتاب فلن يستوعيّه، فالمعالم كلُّها تغيّرت أو اضمحلت أو اختفت من المدينة نهائيّاً.

إنها المدينةُ.. الأطلالُ، سأتخيل عبد الرحمن زائراً مدينتَه عامودا الآن فلن يعرفَ أحداً فيها أو لن يعرفه أحدٌ فيها .. أتخيّله واقفاً على الأطلال حيث لا صديق يُستوقَف ليشكو له عبد الرحمن شهقاتِه وزفراتِه.

تلك المدينة كانت موّارةً بالشعر والسياسة والأدب باتت الآنَ قبض ريح.

عظمة أبي تمّام تكمن أنّه الناطق باسمنا: ” فكأنّني -مذ غبتَ عني- غائبُ”

*خاص بالموقع