الرعب وأنا، والحلبة شقة صرتُ سجينها، بعدما أخلتها الأسرة فزعاً، ولجأتْ إلى بيت عمي. الوقت طويل، وممتد، والسكون الذي كان أملاً بات حبل مشنقة.
كنتُ أشغّل منبه موبايلي حتى لا تفوتني مواعيد تناول الدواء، لكني ما عدت بحاجة إلى ذلك بعد أيام قليلة. اعتدتُ سماع وقع الأقدام، فحفظتُ أوقاتها، وميّزتُ أصحابها. حذاء (سهير) الرياضي يلامس الأرض ملامسة، عند السابعة والنصف تماماً، كعناق عاشقين. أخوها الأكبر يعود عند الثانية عشرة ببوط ثقيل يدكّ الأرض بقوة (دب.. دب.. دب)، وكأنه على خصام مزمن معها، أما نقرات عكاز (أم صبحي)، فتغطّي على حفيف لمسات خفّيها عند خروجها للمشي في المساء. بينما يئن حذاء (حسان) زاحفاً عند العودة منتصف الليل، وكأنه ينوء بأحمال منهكة من التعب.
ما إن أسمع (الملامسة)، أو الـــ (دَب)، أو النقرات، أو الأنين حتى أسارع لأخذ حبة الدواء المناسبة. أيام مضت على هذه الحال إلى أن اكتشفت أنني لم آخذ حبة (النقرات). وعندما راجعت دفتر الذاكرة تأكد لي أنني لم أسمع يومها للعكاز صوتاً. بيد أن الشك حاصرني في اليوم التالي حين اكتشفت، أيضاً، نسياني لحبة الــــ (دَب). تخلّيتُ عن أُذنيّ من وقتها، وعُدتُ لمنبه الموبايل.
المفاجأة المرعبة، أتت من زوجتي:
– (كوفيد) اجتاح العمارة. أمرونا بترك الطعام في مدخلها. سأتصل بك كلما أحضرته.
كانت تجلب لي الطعام وما أحتاج إليه من ضروريات. تضعها أمام باب الشقة، ثم تغادر بعد أن تقرع الجرس. مكالمتها هدّت عزيمتي، وملأتني خوفاً.
سلال الطعام في المدخل راحت تتناقص يوماً بعد آخر، لم يبق سوانا، أنا و(سهير)، ننزل لأخذ الطعام. شكوتُ، فردّتْ: اللعين قَشَّ أغلب سكان هذه العمارة. لم يُبقِ إلا علينا على ما يبدو.. حتى الآن على الأقل. استفسرتها عن.. وعن.. فغصّتْ عيناها بالدموع. ومن خلف الكِمامة، تجرأتُ، وسألتُ:
– وهل طالتك العدوى؟
– لا.. نتيجتي سلبية. الحمد لله.. وأنت؟
– يبدو أنني نجوت. مضى نحو عشرين يوماً. المسحة الجديدة تظهر اليوم، أو غداً.
البشرى زفتها رسالة الموبايل في ذلك المساء: (نتيجة مسحتك الأخيرة سلبية). يا الله.. لقد قهرته. الفرحة خلخلت عقلي وتصرفاتي، لا أدري كيف قرعت جرس شقة سهير:
– أهلاً وسهلاً.. لكنك بدون كمامة!
– سلبية.. أخبروني الآن أن نتيجتي سلبية.
– مبروك.. الحمد لله على سلامتك.. تفضل.
وعندما لاحظتْ ترددي، وخشيتي، تابعتْ:
– لا تخف.. كل ما في البيت معقم.. الاحتياط واجب.
احتسيت القهوة مع سهير. وخلال حديث قصير، كشفتْ لي ما لم يطلعني عليه أي من أفراد أسرتي. قالت إن الجائحة تعصف بالبلاد بشكل هستيري. المؤسسات الحكومية كلها توقفت عن العمل، عدا الكوادر الصحية، وفرقاً من الجيش وقطاعات وزارة الداخلية. وأكدتْ أن مصير البلاد بأكملها بات معلقًا على المعونات والمساعدات الخارجية، بعد أن أعلنت الحكومة انهيار المنظومة الصحية.
ودّعتها، بعد أن شفط حديثها نصف فرحتي، وسارعت للاتصال بزوجتي:
– سلبية.. نتيجتي سلبية.
– الحمد لله على السلامة.
– استعدوا.. سآتي لاصطحابكم غداً والعودة إلى الشقة.
– احذر.. ابق مكانك.
– أقول لك إنني سليم.. ماذا دهاك؟!
– أغلبنا هنا يصارع الفيروس… وأمي كانت ضحيته أمس.
*مجلة الشارقة الثقافية