إلى جميل حتمل في ذكرى غيابه
نسمةً فيّاضةً بالحلم والورد
ترجلتَ الدرجة الوحيدة، لآخر محطات المترو
وباحمرارٍ شفيفٍ لهدبك،
تهتف عيناك الذابلتين
لابتسامة المضيّ..
تاركاً في السماء أسئلةً خافتة !!
للمرة الأخيرة، تغادرنا النوافذ
يرتدينا الإرباك في تبدد الطمأنينة
ودفعةً واحدة، جميع الأوراق الآن:
تتساقط الذكريات والألحان
التي كنتَ تحب !
**
وقبل أن تمضي، نتكئ قليلاً على الوقت في السان ميشيل، نرتشف القهوة، يُنعشنا البخار المتصاعد..وعلى عجلٍ تضمّ أوراقك، وتقترح ان نمشي نحو البريد، فالحديقة الصغيرة قبالة محطة المترو:
– أهلاً هالة..
عيناكَ تضجان فرحةً
يلفحنا نسيم الثغر الباسم
لارتعاشة الأشجار التي تًعانقُ
عشّاق المقاعد، والقبلات الهانئة..
تغادرك الحقيبة إلى المقعد، وتسبق أصابعك، آلة التصوير، قبل ان تتعالى في المكان ضحكات الياسمين الذي يمتطي غيمة المساء الملوَّن بالحنين..
– كم مضى من الوقت؟
– لا بأس.. دع صغيرك ياجميل يلعب !
*
الخطى الوئيدة تسرق المساء
ويداك النحيلتين تعزفان حكاية القلق
الهارب في جيبك!
يتعالى الهمس الرهيف لاشتياق محموم
لاشتهاء يُظللُ دمعة العين
لأيام كانت..
واخرى لصخب مقهى عتيقٍ
في شارع العابد!
*
نعرُجُ إلى دكان قريب في السان جيرمان، تدفع الفرنكات، ونخرج بزجاجة نبيذٍ فرنسي، مما كان يشتهي قلبك، وتلهجُ به روح صاحبك المحروم.. نصعد المترو، لا كلام.. يأخذ الشرود أحدنا، أو كلانا:
– هذه “فارين”..وصلنا. نتجه شمالاً، الشارع الأول: لا.. الشارع الثاني: لا.. الثالث: ريو دي جرول، ليس بعيداً من هنا.. رقم 49.
*
هائمٌ وجع المدينة يتغلغل
في مساحات وجهك النديّ
تمزق صورة الكون الملصقة على باب الكلام،
وقديساً، تتلمس ملامح الروح
وتنهض..
– كم مضى من الوقت ؟
– لا بأس، التقاطع الأول، ثم المدخل الاول على اليمين.
تستلُ من صندوق البريد جريدة القدس العربي، تحدثني عن المدينة الباهرة، التي لم تقدر على احتوائك، المدينة التي فرضت عليك شعوراً كئيباً بالوحدة، تعبر طرقاتها وحيداً، تستقل المترو وحيداً.. في السينما، في الشارع تمتلئ هدوءاً وألماً وتعباً ! تشعر بالإجهاد، فتمسح صدرك جهة القلب، بهدوء وألم، وابتسامة..
– أدخل، سنتعشى الليلة طعاماً دمشقياً، في قلب باريس.
بجانب كومة كبيرة من الجرائد والمجلات، ترمي جسدك فوق الأريكة، تتأكد من حرارة الهاتف الذي لايرن.
– تنتظر أحداً ؟
– أبداً، ولكني أتذكر..
– من ؟!
” حين أدرتُ المفتاحن في ظهيرة صيف، كان ما أذهلني. ثمّة رجل يشبهني على الأريكة، يُصرُّ أن المنزل له، يُعدد لي ما في الطبقة العليا من غرفة النوم، ببساطة تُدهشني، بل تُربكني.. ثم يدّعي كتابته لكل ما كتبته أنا بخطي، في دفتري الأسود.. “*.
– كيف يحدثُ هذا ياجميل !
– دخلتُ بيتي، وعلى الأريكة الوحيدة، لم أجد أحداً. تمددتُ أنا، رنّ الهاتف، ورددتُ انا بنفسي.
لم يكن أحدٌ في الداخل، لم يكن أبداً.
*
كان شوقك إلى الوطن، يشدك إلى التعب،
ويرمي بك الحنين إلى أحضان الغربة الباردة
وكنتَ تمضي ساكناً، تتقوى على الغربة والوحدة، بالسفر وأشياء أخرى كثيرة، غير القراءة والكتابة.
يتمطى الوقتُ..
يتثائبُ الليل،
ويذوب الحنين بين قلبك وشفتيك..
– لديّ عرقٌ فرنسي، ما رأيك؟
قلبك المتسع للحب، بحجم الدنيا كلّها، كان يُطاردك، وكنتَ لا تقوى على قهره. أتعبك القلب، والبلاد التي ارغمتك على الرحيل، مرةً أولى مُكرهاً، وأتعبتك البلاد
التي
أضاء
ليلها
موتك..
ولم تزل لك من الأحلام..
سماء !
*
رحلتَ إذن، وظلت اصابعي ترتجف، وهي تحاول أن تدير قرص الهاتف، ليرنّ في غرفتك، نتحدث، نتبادل الحكايا.. وانت في ومضاتك الأخيرة، تغالب حاجتك إلى ثمن الدواء، وأقساط العملية التي أجريت لك.. لتؤجل ارتعاشة العين لمرة واحدة، قليلاً.
قليلاً من الوقت
لضوء يبددُ الكلام !
في عتمة السؤال المرّ،
عذب الحنين، لقمرٍ
غادره صدر السماء،
تلوّى، تلفع بالغياب الباهت
بين باريس ودمشق ثم نام !
* كُتب هذا النص في رثاء الكاتب والقاص والصحفي السوري الراحل جميل حتمل ( 1956- 1994 ) ونشر في جريدة القدس العربي، في ذكرى مرور 100يوم على غيابه المُفجع. ونشره لاحقاً ضمن كتاب الشاعر الشعري ” وردة المساء – دار تانيت 2000). ومع مرور ربع قرن، مايزال غيابه مؤثراً.. و صوته الملائكي الخافت ما يزال حاضراً.. نستعيد ذكراه، تحية له، بنشر النص مجدداً
**من قصة لجميل حتمل بتصرف