عبد الرحمن حلاق: حسن تخلص أم تهرب ضريبي؟ رسالة إلى محبي الشيخ نور الدين عتر

0

في حادثة تبدو كطرفة كنت أسمعها في تسعينات القرن الماضي  في الكويت أن رجلاً زنى بخادمته فجاء يستفتي أحد أئمة المساجد عن الخادمة هل تدخل ضمن ملك اليمين أم لا فيجيب الإمام بسؤال ( هل أنت مالكي أم شافعي ) فقال له بل مالكي فرد إمام الجامع بالقول: أنا شافعي والشافعي لا يفتي لمالكي.

في البلاغة قد يُحمل موقف الإمام على باب ( حُسن التخلص ) أما في الواقع فهو تهرّب من دفع ضريبة الموقف، تهرّب من جواب له تبعات كثيرة فالعلاقة بين السائل والمسؤول محكومة بمصالح شخصية لم يُرد الشيخ أن يخسرها إن قال له أن هذه الواقعة تدخل في باب الزنى وبنفس الوقت إن قال ليست بزنى فسيكون مهدداً بسيف الترحيل كونه وافد.

تنسحب هذه الحادثة بحيثياتها على شريحة واسعة من علماء الدين في سوريا، ممن لا يريدون خسارة مكاسبهم الشخصية إن هم جهروا بالحق وفي الوقت ذاته لا يستطيعون إغضاب ربهم بالسكوت عن الظلم وهنا تأتي تقنية ( حسن التخلص ) البلاغية كمنقذ من هذه الورطة فكما أن كثير من آيات القرآن الكريم تُستخدم على مبدأ ( لا تقربوا الصلاة ) أو تُجتزأ بطرق توهم المتلقي بحكم شرعي قاطع كذلك تستخدم الأحاديث النبوية أيضاً لما فيها من روايات متعددة أو لتشريحها وتجزيئها حسب رغبة الشرعي الذي يستنبط الحكم. ولنأخذ على سبيل المثال ما [رواه أبو داود (4259) ، والترمذي (2204) وحسنه ، وابن ماجة (3961) عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنْ دُخِلَ – يَعْنِي – عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ) .]

ولنضع خطاً أحمر تحت عبارة ( إن بين يدي الساعة ) التي تتحدث عن علامات الساعة واشتراطاتها فقبيل يوم القيامة سيصبح الأمر كما ورد في الحديث، عندئذ فلتكن أيها المسلم قتيلاً  كهابيل أفضل من أن تكون قاتلاً  كقابيل.

لكن الحديث السابق لم يبق كما هو فقد صححه الألباني في “صحيح أبي داود“.

 [ وفي لفظ لأبي داود (4263): ( إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي) ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: (كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ) ” .]


فقد اختفت لفظة ( الساعة ) ليتم تداول الحديث عند انتشار الفتن والفتن في الفقه الإسلامي هي مجمل الحوادث التي يخشى فيها المرء على دينه وعند ظهورها يتوجب على المسلم أن يلازم بيته ولا يبرحه. وبذلك يتوافق الحديث مع حديث آخر يتم الأخذ به أيضاً عند ظهور الفتن وهو الحديث الذي رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها [ ( 7088 ) كتاب الفتن ،  عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن ) .]

إذاً لم يعد الأمر حديثاً عن الساعة وأحوالها بل هو في الفتن عامة ولأن الثورة السورية حدث جلل وعظيم فقد أدرجها كثير من علماء الدين في سوريا تحت هذا البند واعتبروها فتنة ولذلك سارع كثير من الناس بترك بلدانهم الثائرة والفرار بدينهم إلى ( شعف الجبال في اللاذقية أو مواقع القطر في حماه ودمشق وبقية مدن النظام ) مما سهّل على العصابة الأسدية التحدث عن إرهابيين مسلحين تساندهم حاضنة اجتماعية واسعة وبذلك تم القضاء على مئات ألوف المواطنين باسم الإرهاب. وفي هذه الجزئية تحديداً لم يقتصر الأمر على العامة من الناس أو على رجال الدين بل شمل أيضاً الكثير من المثقفين وصغار الكتبة ممن يدّعون اليسار  الفكري بغض النظر إن كان منظماً في حزب أم غير منظم.

وإذا التمسنا بعض العذر للعامة _ مع أنه لا عذر لهم _ فكيف يمكننا أن نلتمس العذر للخاصة، ألم يعلمونا أن الساكت عن الحق شيطان أخرس ؟ كيف خرس الآلاف من رجال الدين؟ وكيف تحولت مواقف الكثير من علماء الدين في حلب الذين وقعوا في شهر تموز 2011 بياناً استنكروا فيه بطش النظام كما حملوه مسؤولية “سفك الدماء البريئة، وانتهاك الأعراض الحصينة”، وكان الشيخ “نور الدين عتر” في مقدمتهم؟ هل اكتشفوا فجأة أنها ليست ثورة وإنما هي فتنة ؟ وصدقوا سردية النظام بالمؤامرة الكونية.

لا يمكن لعاقل تفسير هجرتهم إلى أحضان النظام (شعف الجبال ومواقع القطر) بأنها فِرار بالدين فعصابات الأسد كانت واضحة جداً ( مين ربك ولاك ) ، واضحة جداً من خلال تدمير آلاف المساجد والكنائس وعشرات آلاف البيوت لا بل داسوا على القرآن وحرقوه ومارسوا كل أنواع الفحش في المساجد، فأي هجرة هاجرتها يا شيخ ( نور الدين عتر )؟ وأنت المحدث الحافظ الفقيه النابغة الورع المتواضع يامن تخرج على يديك آلاف الطلبة في كليتي الشريعة والآداب. ولماذا فضلت أن تأخذ برواية البخاري للحديث السابق؟ أما كان الأجدر بك أن تأخذ بالشق الأول من الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه [ ( 1888 ) عن أبي سعيد الخدري أيضاً رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ. قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ( .]

يقول محبوك أنك آثرت البقاء بين تلاميذك ولم يعتقلك النظام لكبر سنك ومكانتك العلمية. ألا توافقني أن من الحب ما قتل؟ سأجتزئ لمحبّيك هذا الجزء مما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود ( فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها )

*خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here