تندرج رواية “القمصان البيضاء” للروائية السورية ابتسام تريسي (دار “موزاييك”، تركيا، 2020) في سياق مشروع الكاتبة العام المتمحور في تناول هموم المجتمع السياسية والاجتماعية، والعمل بدأب وأناة على استعادة المتن المهمّش واقعيًا بفعل الاستبداد السياسي وقرينه الاجتماعي وذلك منذ روايتها الأولى “جبل السماق”، 2004، التي عكست فيها أدوار البسطاء من الناس في ثورة الشمال، أول ثورة تصدت للاحتلال الفرنسي في بدايات القرن المنصرم.
في “القمصان البيضاء” نتعرف على ثلاث نساء يعشن قهرًا ثلاثيًا على الصعيد الاجتماعي والسياسي والصحي ولكلٍ منهنّ طريقتها الخاصة في مقاومة هذا القهر الذي بدا وكأنه قدري أزلي، مقاومة الواقع الاجتماعي المتخلف والواقع السياسي الاستبدادي ومقاومة السرطان وقهره. وذلك من خلال حكايات ثلاث كل منهن في مكان مختلف عن الآخر تتضافر ضمن حبكة محكمة رغم غياب الراوي العليم، فقد منحت الشخصيات حرية القول والروي فأظهرت كلٌ منهن جانبًا من جوانب الألم الذي تعيشه المرأة السورية على الصعيدين العام والخاص من خلال ما يُدعى بتقنية تعدد الأصوات.
غياب الراوي العليم سمح للشخصيات أن تتحدث عن نفسها بأريحية وحميمية وكان الصدق مع الذات أجمل ما تبدى فيها، من ناحية ثانية استطاعت الكاتبة أن تتوسع وتفصل في أنواع القهر الذي تعيشه المرأة بشكل عام، فمع الصوت الأول نجد سلمى التي تعيش حالة تفكك أسري وتجد نفسها وحيدة مع جدتها بعد موت أمها المطلقة وأبيها المهاجر ولتنخرط بعد ذلك بزواج زاد من تعقيد حياتها فتتخلص منه بعد طول معاناة لتجد نفسها ضحية طبيب نفسي لجأت إليه لعلاجها من حالة اكتئاب حاد فيستغلها لحين ثم يُسلمها للمخابرات في بداية الثورة فتعيش قهر الاعتقال وتخرج من المعتقل محطمة نفسيًا وجسديًا لتهرب فيما بعد مع الهاربين إلى تركيا وتبدأ رحلة ألم جديد مع السرطان ومع أوجاع الحنين إلى دمشق وأيضًا مع اضطرابات ما بعد الصدمة. أما الصوت الثاني فقد لخص صراع المرأة مع المفاهيم الدينية والاجتماعية التي تقف على النقيض من مفاهيم الحياة التي يصنعها الحب من تلقاء نفسه، وفي الوقت الذي استطاعت فيه المرأة (شخصية مرام في الرواية) تحدي هذه المفاهيم نجد الرجل خاضعًا لمفاهيمه الدينية مما فسح لها المجال لتقمع حالة حب عنيفة بينهما، أما اللافت للنظر في حالة الصراع مع هذه المفاهيم تساوي الشرق والغرب في ممارستها فقصة حبها التي لم تكتمل في اللاذقية نجدها تتكرر بصورة أكثر تراجيدية في فرنسا فقد شعر زوجها الفرنسي بانتقاص في رجولته ومكانته الاجتماعية عندما نشرت ديوان شعر في فرنسا تتناول فيه قضايا الحب فكانت المجموعة دليل إثبات حجته أمام المحكمة التي حكمت بالطلاق لتجد نفسها مشردة في شوارع باريس بلا مأوى. أما الصوت الثالث فقد حمل في سرده مراحل الألم في رحلة العلاج وتكاليفه الباهظة دون أن يغفل بعض جوانب القهر الاجتماعي.
في نهاية السرد نجد أن الأصوات الثلاثة تنضفر في جديلة واحدة من خلال مجموعة نسوية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي تهدف إلى تعزيز الطاقة الإيجابية لدى مريضات السرطان وتقدم العون لكل محتاجة، وإذا كانت النسوة الثلاث قد تمكنّ من قهر المرض فإن المعركة ضد الاستبداد بكل أنواعه ما تزال مستمرة.
الثورة واستعادة المتن المهمش
سعت السلطة الحاكمة خلال السنوات الخمسين الفائتة إلى تهميش الدور الحيوي للمواطن السوري في بناء بلده وتطوير مجتمعه، فعززت أجهزة القمع والتسلط وباركت الفساد في كل مفاصل الدولة، وباعدت وبشكل مدروس بين الطوائف والمذاهب والأديان، إلى أن قامت الثورة السورية. وفي ظلال هذا المنتج الوجودي تنتقي الكاتبة شخصياتها بعناية لتقدمهنّ لنا ضمن هذا النص الروائي.
عاشت سلمى حياتها في دمشق مهمشة تتلاعب بها الأعراف والتقاليد وبفضل بذور التمرد في داخلها تمكنت من التخلي عن زوجها الشرقي المتعنت والمؤمن بأن الأثداء الأنثوية لا ترتخي إلا من كثرة مداعبة الرجال بكل ما ينطوي عليه هذا الإيمان من جهل وتخلف، وبفضل بذور التمرد هذه نجدها ضمن الحركة الفاعلة في الثورة وفي المظاهرات الأولى وهذا ما أدى بها إلى الاعتقال ومواجهة الاستبداد السياسي وجهًا لوجه، ومن بين جدران المعتقل تبدأ الصدمة النفسية التي ستنعكس على حياتها بشكل شبه مدمر فيما بعد.
بينما نجد مرام التي قضت سنوات حزينة مهمشة تحلم بيد طفلها الصغير الذي سرقه منها والده وعاد به إلى اللاذقية، ورغم زواجها من فرنسي إلا أنها ارتضت تلك الزاوية المهمشة لتعيش فيها إلى أن انتفض السوريون بثورتهم فأدركت أن كل آلامها وأحزانها لا تعادل حزن أم على ولدها الذي سقط ميتًا برصاص الطاغية وهو ينادي في شوارع سورية (حرية)، فخرجت من شرنقتها وبدأت رحلة الفعل في دعم شعبها، مستعيدة صوتها وذاتها المتمردة الحرة التي عاشتها في بدايات الشباب، ولتشعر أخيرًا بذلك التوازن النفسي مع الذات. ولم تتخلف رشا عن مواكبة الحدث وإن بدت منفعلة به أكثر من كونها فاعلة خاصة وأن متطلبات الشخصية في المتن الروائي تحد بصورة فنية من تحميلها ما لا يناسب الدور المرسوم. وبذلك تمنح المؤلفة لهذه الضفيرة الثلاثية بعدًا واحدًا. وتندغم الألوان (الأخضر ـ الأزرق ـ البرتقالي) لتمنح للأبيض حضوره، فقد استخدمت الكاتبةُ الألوانَ على سبيل الاستعارة لتعكس مزاج كل شخصية وحالتها النفسية وذلك بلعبة بلاغية ذكية ورغم كراهية الشخصيات للون ثوب العمليات الجراحية (الأبيض) إلا أنهن تصالحن معه في نهاية المطاف وارتدينه ضمن لقاء افتراضي احتفالي بعد انتصارهن على السرطان.
السرد والزمن الروائي
قدمت الكاتبة كما ذكرنا ثلاث حكايات، اختلفت بتفاصيلها وتزامنت بأحداثها وتضافرت بنهاياتها وقد أسهم السرد في الحكايات الثلاث بملء الزمن الروائي من خلال شخصياتها الساردة حصرًا فقد جاء السارد مطابقًا للشخصية، ولهذا جاءت الحكايات عبر تبئير داخلي – حسب تعبير جينيت- ثابت، فكل شيء يمر من خلال الشخصية البؤرية، إلى أن تتضافر المسرودات بتضافر الساردات الثلاث عبر حوارية اللقاء الاحتفالي في نهاية السرد. هذا الثبات في التبئير (السرد من وجهة نظر السارد) منح الحكايات الثلاث فرصة الانفراد بتوتر الحدث وتصاعده الدرامي الخاص، كما منح الزمن الخاص بكل حكاية فرصة السكون تارة والحركة تارة أخرى حسب حالة الصراع الوجودي الذي تعيشه الشخصيات الثلاث مع السلطة السياسية أو السلطة الاجتماعية أو الدينية أو مع المرض.
في نهاية المطاف نجد أنفسنا مع رواية وإن شكلت ثيمة الحب فيها قيمة عليا إلا أنها تعكس صراعًا وجوديًا صارخًا يتميز بالعنف من جهة الاستبداد السياسي وبالخبث والنعومة القاتلة من جهة الاستبداد السرطاني وذلك عبر لغة شفافة لم تتباين سطوحها كثيرًا بتباين الشخصيات فجميعهن على مستوى علمي متقارب لكننا نلحظ بعض التباين عند كل من مرام الشاعرة ورشا المهندسة، فمع مرام سنجد اللغة وقد اقتربت في بعض مفاصلها من لغة الشعر خاصة وأن الشخصية عاشت معتركات الحياة بصورة أكثر تراجيدية من المهندسة (رشا) ذات الروح العفوية والاندفاع التلقائي إلى المرح والبساطة في التعاطي مع الواقع والحياة. وبقيت الشخصية الثالثة في إطار الحيز اللغوي الأنيق الذي اعتدناه في معظم روايات الكاتبة مثل رواية “المعراج” ورواية “غواية الماء” ورواية “كتاب الظل”.
(ضفة ثالثة)