عبد الرحمن الحلاق: “جمهورية الكلب”.. تقنية التورية السردية

0

على بساطتها اللغوية وبطء الحركة في خطها الدرامي تمسك رواية “جمهورية الكلب” للروائي السوري إبراهيم اليوسف (دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، 2020) بتلابيب القارئ وتخلق في داخله شغفًا يتنامى رويدًا رويدًا إلى أن يبلغ ذروته في الربع الأخير من صفحات الرواية متكئة على مخططين سرديين يتوارى أحدهما خلف المعاني المباشرة التي تتبدى من خلال المعاينة الحسية التي تمنحنا بادئ ذي بدء تصورًا ذهنيًا يجعلنا نتمكن من القبض على المعنى الأعمق من خلال تأويل الاستعارات التي استعان بها الكاتب والمتعلقة بالكلب وطباعه، ومشاعره، وطرق تربيته، وإعداده. 

وقد لعب فيض المعلومات حول عالم الكلاب، وكثرة القصص التي جادت بها ذاكرة البطل، دورًا بالغ الأهمية في التعويض عن بطء الحركة في الخط الدرامي. ومنح النص قدرته على إثارة فضول المتلقي.


في المبنى الروائي

(الأمر خرج من يدي، إذ لم يصدق أحدٌ في أسرتي أن تكون نهايتي على هذا الشكل. أن أقرر اقتناء كلب في المنزل أعنى به، وأتقدم بطلب إلى مديرية اللاجئين في المدينة:

أريد بيتًا أسكن فيه وحدي!

كثيرون شككوا في أمر).

بهذا القرار يخبرنا بطل الرواية في صفحتها الأولى عن تحول بنيوي مغاير في آليات تفكيره وفي قناعاته الخاصة، وهذا يعني أننا أمام حالة بناء مبكرة في استهلال العمل، وبالتالي سنتابع خلال مجريات الأحداث مجمل البِنيات التي سيعمل على هدمها ليقيم مكانها المآل الجديد الذي صار إليه. فكيف حدث ذلك؟

لو حاولنا تتبع المخطط الظاهري للرواية سنجد أنفسنا أمام قصة بسيطة للاجئ سوري كردي في ألمانيا متقدم قليلًا في العمر، يعاني من صعوبات الاندماج اجتماعيًا ولغويًا، يلتقي بامرأة ألمانية في إحدى الحدائق التي يمارسون فيها رياضة الصباح، امرأة قُتل زوجها في الموصل، فكرست بقية حياتها لمساعدة اللاجئين إلى وطنها مكتفية من العالم بكلابها التي تربيها، تتوطد علاقة صداقة بينهما، يلتقيان يوميًا لمرة واحدة ثم اثنتين وأحيانًا ثلاث مرات وينحصر الحديث فقط في عالم الكلاب، تتطور العلاقة أكثر فتدعوه إلى حفل خاص بمناسبة يوم الكلاب العالمي فيسهران صحبة أحد عشر كلبًا وخلال السهرة يتهجم عليه كلبان ثم تتعرض فيما بعد لحادث سير ويموت كلبها في بيت اللاجئ مما يتسبب في سلسلة تحقيقات أمنية لدى البوليس الألماني إلى أن تتوضح الأمور.

أما المخطط الآخر الذي يختبئ خلف هذا المخطط الظاهري فيما اصطلحت عليه في قراءات سابقة بتقنية التورية السردية، فيمكن استنتاجه من خلال تتبع الحوارات والقصص المروية عن الكلاب الألمانية وكذلك القصص المروية عن الكلاب السورية، ويمكن تعريف التورية السردية بأنها: أسلوب بلاغي بنائي يتحكم في مجمل التصميمات اللفظية المستندة أساسًا على الاستعارة والكناية والبناء الرمزي، يمنح النصّ شكله ومضمونه ويخلق مجمل التوتر البنّاء فيه.

ويمكن إيجاز المخطط الثاني بكون الرواية تحكي قصة كاتب روائي وباحث، اكتملت رؤيته الفكرية وتبلورت قناعاته وبات رقمًا معروفًا بين المثقفين النخبويين في وطنه، يتعرض ككل من ثار ضد الاستبداد إلى اللجوء فيختار ألمانيا وفيها تدور أحداث الرواية حيث تصطدم قناعاته الفكرية والاجتماعية بعادات وأعراف المجتمع الجديد، فيتناولها بطريقة موضوعية شأن أي باحث، ليصل في نهاية المطاف إلى كسر بعض القيود والبدهيات التي نشأ عليها. وضمن إطار هذا المخطط نجد أنفسنا أمام ثقافتين مختلفتين تمامًا، ثقافة تحتضن الكلاب وتضعها في ثالث أولوياتها بعد الطفل والمرأة ويأتي الرجل في المرتبة الرابعة، وثقافة تتعامل مع الكلب على أنه حيوان نجس يُستفاد منه بمقدار محدد ضمن ظروف محددة ثم يتم التخلص منه، وهذه البنية بالضبط هي المستهدفة بالهدم. ضمن هذا الإطار سنجد أن الكلب الألماني صاحب سلطة وله حقوق قانونية أهمّ من حقوق الرجل وبالتالي لا بد لللاجئ السوري من استيعاب هذا الوضع والتعامل معه ولأنه صاحب سلطة ولأن اللاجئ حالة قلقة وغير مستقرة إذن لا بد من ترويض النفس لتقبّل الأمر والبحث في ماضيه عن بعض الجوانب المشرقة في التعامل مع الكلاب في وطنه ولا بأس من إدانة الجوانب الأخرى كونها تعكس بعض التعاملات السيئة مع عالم الكلاب، هذا الموقف سيعزز من قبول الألماني لهذا اللاجئ. إذن لو حذفنا كلمة (كلب) من سياقها الروائي ووضعنا عوضًا عنها كلمة (الآخر) لتبدى لنا المخطط الباطني الكاشف للمعنى والمحدد للرؤية الفكرية الإنسانية في شخصية (آلان النقشبندي) ولتبدّت لنا رمزية الكلب كحالة استعارية لا تتناقض مع المخطط الظاهري للرواية.

وما يعزز هذه الحالة قدرة الرواية على تحميل الكلب بلاغيًا مجموعة من الدلالات تعكسها مجموعة القيم والمفاهيم التي نمارسها بشكل اعتيادي وتكاد تكون مجموعة بدهيات ومسلمات قد يتنصل منها الكثيرون ويرفضها أصحابها لحظة طرحها بشكل مباشر، إنه نوع من ممارسة التقية إن صح التعبير أو حالة من حالات الفصل بين الوعي والممارسة لكنها في نهاية المطاف هي مجموعة أفكار أنتجها المجتمع في فترات تاريخية متباينة وترسخت في لا شعوره واستعبدته شأنها شأن الكثير من المنتجات العقلية البشرية التي مارست الاستبداد لاحقًا على منتجيها. فالشخص الطائفي على سبيل المثال قد يرفض الطائفية في طروحاته النظرية لكن أفعاله بالمجمل تنبئ عن طائفيته، فإذا كان آلان النقشبندي قد استطاع بعد معاناة شديدة أن يتخلص من بدهياته حول الكلاب رغم أنه تعرض لهجوم جارح من كلبين نازيين، فإن أبناء الطوائف في وطنه قد يستطيعون التخلص من مسلماتهم وبدهياتهم التي تقصي الآخر أو تدعو إلى التخلص منه نهائيًا. استطاع بطل الرواية أن يكون موضوعيًا في علاقة أبناء وطنه من الكلاب وبالتالي استطاع التوصل لحالة صلح مع الكلاب الألمانية وقرر تربية كلب في منزله. وفي استعراضه لحالات القتل والأذى التي تلحق بالكلاب في وطنه إنما هو يهدم تلك المجموعة من المسلمات المعيقة لبناء وطن حاول أبناؤه العقلاء ذلك في ثورتهم لكنهم جوبهوا بمجموعة قوى محلية وإقليمية ودولية شتتت شملهم وقضت على أحلامهم، وغدا آلان النقشبندي واحدًا من الحالمين بالعودة إلى الوطن الحلم.

(ضفة ثالثة)