تجمع أحيانا الجلسات النقدية الحميمة، في المقهى كما في قاعة الدرس الأكاديمي، فلتات جامحة تكاد تكون مشاريع لرؤى نقدية عارفة لانصرامها من بوتقة النص، لأنّ هذا الأخير في النهاية ما هو سوى المجتمع مختزلا في حركة الفرد من داخله إلى الخارج، أي إلى نقطة الحركة المجتمعية النّاهضة بتأسيس التاريخ، والأثر الذي يدلّ عليه، وبالتّالي يصبح النص من ضمن الأثر الذي يحفر في علاقة التاريخ بالإنسان والمجتمع في سيرورة العالم، ففنجان قهوة على قارعة مقهى، يمكن أن يفتح كوة لترسيمِ رؤيةٍ للنص، قد تستمر مغلقة داخل أقبية الدرس الأكاديمي لانفصاله عن التجربة، بمعنى أنّ النص باعتباره خبرة بالحياة، لا يمكن أن يكون المخبر المحدّد بالأداة المجرّدة معيارا وحيدا للحكم على النص.
النص بين التجربة والأداة:
يتأرجح النص بين مِخبرين، مخبر مفتوح على الحياة باعتبارها تجربة، وآخر مفتوح على الأداة باعتبارها منجزا عقليا، وما بين المخبرين تتأسّس الرّؤية للنص، المفترض أن يتكامل فيها المخبران، لترتسم الحدود النّقدية التي تحيط بالنص، بما هو حركة داخل الحياة تتطلب الأداة المجرّدة بالقدر نفسه الذي تحتاج فيه إلى التّجربة، بل لعل التجربة تكون أعمق في إحساسها بالنص، لأنّها تنبع من الطبيعة ذاتها التي نبع منها النص، في انوجاد الناص ضمن ظروف الحياة، التي «كان جزءا منها قبل أن تهاجر به الحياة إلى الكتابة» كما يرى بول ريكور.
ينجز الكاتب نصّه الإبداعي، ثم لا يعي لحظة انفصاله عنه، فيتمسّك بحبله السرّي، طبعا، للعلاقة الحميمية بينهما، إذ لم ينخلق النص من فراغ، بل من معاناة الكاتب داخل أقبية الواقع، والتدافعية الشّرسة بين الذّات كفعل منتج والواقع كفعل مستفز، ثم يحتفظ الكاتب لنفسه بهامش قراءته لنصّه، لأنّه وحده العارف بقصديته الحقيقية، وبدون وعي في بعض الأحيان تكون معارضاته للقراءات المتعدّدة، خصوصا تلك التي تبتعد عن قصديته، فتتأكد الوجهتان المختلفتان اللتان ينطلق منهما النّاقد والكاتب، فالأوّل ينطلق من التجربة، كفعل حيوي يبعث النّشاط في أوصال النص، لكونه تجربة حياتية، وأيضا ينطلق من التنويع على الدّلالة في تعدّد المعنى، وبهذا يبتعد كثيرا عن المنطقة التي يتحصّن بها الكاتب، في فهم القصدية الحقيقية للنص، أو المغزى منه، وهي المناسبة، التي لا تشكل في وعي النّاقد أي مرجعية، ولا في وعي الناص أو لاوعيه، لأنّها تتعارض مع المسارات المفاجئة، التي تتّخذها النصوص الجديرة بالاسم مستقبلا، أي في مضمار تطوّر الحدث، فكثيرا ما تنفلت النصوص بشخوصها وتتمرّد على الرؤية الأولى التي كان يظن الكاتب أنّها توجهه، وهنا تسقط أي شرعية للمناسبة، والناص إنّما يلجأ إلى المناسبة أحيانا بدون وعي، موجَّها بالشعور النسيجي بحمائية النص.
أفق القراءة/ أفق الإنتاجية:
يتكرّس مفهوم «الإنتاجية النصية» بتعبير جوليا كريستيفا، إذا استطاع هذا النص أن يكون قيمة مضافة، إذ يشعر الناص بمشروعية إنتاجيته، باعتبارها أفقا محكوما بالوعي، أي بالقصد إلى شيء، أو الوعي بشيء، كما يرى هوسرل في مفهوم الوعي، فتكتسب الإنتاجية مفهوم الواقعية، من جهة التشكلات الجنينية للنص داخل واقع يتحرك بالتاريخ وفيه، فأفق القراءة يختلف عن أفق الكتابة، لكن باعتبار النص إنتاجية، فهو محكوم بأفق التجربة الضارب إلى الماضي، وأفق التوقع الضارب إلى المستقبل، بتعبير بول ريكور، وهو ما يتوافق وحقيقة القراءة الحافرة في النص، فإذا كان هذا الأخير جمالية إنتاجية للناص، فهو مخبر إنتاجية للقارئ، يجرّب فيه تفاعلاته الثقافية والمعرفية والإنسانية كافة، لأنّ تجربة القراءة تمثل «الذاكرة الأشد حضورا» بتعبير بيرنار بيفو بين القارئ والكاتب، فالانهمام بمعرفة الكاتب أو قراءته تبدو كما هو شعور بيرنار بيفو صاحب الحصص الثقافية الفرنسية الأشهر، ومنها «فاصلة» و«حساء ثقافة» وهو متوجّه إلى محاورة بعض الكتّاب في بيوتهم، ومنهم ليفي ستروس، نيكولا ريبوفسكي، سيمونون وغيرهم، يقول: «غادرت بروح الفاتح الذي تسلّل إلى حميمية الرّجل العظيم، وغادرت أيضا بالشّعور اللذيذ بكوني لصّا ومفترسا» كما ورد في كتابه «مهنة القراءة» أجوبة لبيير نورا Métier de Lire.
تحتوي قراءة النص على دفء القارئ، وليس فقط تركيزه، أو حفره في طبقات النص أو تفكيكه، والدفء قد ينبهه إلى أماكن البرودة، التي سقطت من لاوعي الكاتب، والتي تتطلب قارئا نشيطا يعيد الحرارة إليها، أو بتعبير أمبرتو إيكو يملأ «الفراغات البيضاء» وهي ليست بالعملية السهلة التي يتخلى فيها القارئ عن ذاته وتاريخ علاقاته بالأشياء والواقع والعالم، فشعور بيرنار بيفو بكونه «فاتحا» و«سارقا» و«مفترسا» تلك هي المعاول المتعلقة بواقعية القارئ باعتباره منتَج الشّرط الاجتماعي، الثقافي والتاريخي، الذي يقترب من النص بوصفه المجتمع المتجلي في المعنى، الذي «له كينونة التّجربة الإنسانية، التي يمكن استشفاف آثارها في الأفعال والسلوكات والوقائع والقرارات» كما ترى سميّة عزّام في كتابها «البينية في التّخييل السّردي» ومن هنا ليست «الإنتاجية» كينونة ساكنة تتّخذ مفهومها في مستوى «المعنى» باعتباره مقابلا «للمحسوس» ولكن باعتبار المعنى تمثيلا لحياة «القارئ» مقارعا بها حياة «النص» وهو ما يجعل المقاربة للنص انطلاقا من التّجربة أشدّ إخلاصا لتفكيك بنياته لتماثل طبيعة تطور النص والقارئ، وانوجادهما على مسرح الحياة، نقطة التقائهما هي المفصل الأشد تاريخية في انبثاق بؤرة المحبّة، والرّغبة المتبادلتين بينهما، فـ»ثمة رابطة متبادلة في كل قراءة بين قارئ ونص: دمج بين رغبة القارئ بالرّغبة في النص» برؤية جاك دريدا.
تجربة النص/ نقد التجربة:
يُنتج السارد حكايته، وقليلا ما يفكر في الحركة فيها، الناقد هو الكائن المشتبه فيه بالحركة في فضاءات النصوص، متلصصا، ليتمكّن من الوقوف على وضعية النص في حالة انكشاف وتعرٍّ، فالنص بطبيعته متكتّم، حتى على صاحبه، لأنّ المفترض في أفقه أن يكون مفتوحا، فما يجهله صاحبه يستخرجه منه القارئ، و«اللعب» بمفهوم بارت، على مشارف النص يستدعي خروجا منهجيا عن صرامة المنهج وقصوره عن الارتحال إلى مناطق التوهج الحدثي، النازح من حركة الواقع والمنتِج لواقع بديل، أساسه الفن والخيال، ولهذا لمّا سئل الفيلسوف بول ريكور عن المقهى، باعتباره محلا يحب أن يستقبل فيه أصدقاءه ومحاوريه، علّل ذلك بأنّ المقهى بالنسبة إليه «محلّ أكثر من تاريخي، إنّه أسطوري، الأسطورة هي زمن البدايات، فات من الزّمن ثلاث وستون عاما على مجيئي إلى هذا المقهى، ويمكن في المكان نفسه، قريبا من مكان أسطوري آخر بالنسبة إليّ، حديقة اللكسمبورغ، كانت قريبة من منزل غابرييل مارسيل، الذي كنت تلميذه في سنة 34/35، السنة التي كنت أحضّر فيها التأهيل في الفلسفة».
تصبح هذه الأطروحة النّاجزة في وعي ريكور كدال توعوي على أهمية المكان بالنسبة لاستدعاء حكاية الفلسفة، التي يمكن أن تُتعاطى في المقهى، ولم لا؟ هذه المحاولة لإخراج النص المجرّد من جفاف المدرّج إلى نداوة المقهى، تعتبر محاولة لفك العزلة على النص، ليتمكّن من التّعبير عن الحياة داخله، تلك التي حملها معه الكاتب وهو يهاجر إليه، ويصبح القارئ/الناقد منصتا لهسهسة الدّبيب في أوصال النص، كلّما اقترب بالنص من الحياة ومن الواقع، فيمنى العيد في حوارها مع عبد الرحمن منيف، استدركت على جواب وصف فيه ما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية بأنّه «موت» قائلة: إنّه «قتل» وليس «موتا» ويعقّب الإعلامي محمد بوزرواطة على هذا الموقف في مقال له: «إنَّ الناقدة يمنى العيد كانت تَعي ما تقول ولم تكن مجرّد مُحاوِرة عادية لصحيفة سيّارة، بل كانت تعِي دورها في صياغة وتشكيل وجدان جديد وحساسية نقدية مختلفة». تمثل يمنى العيد فصيلا من النقاد والمبدعين اللبنانيين، الذين صقلتهم الحرب الأهلية، فهي تحاول استنطاق النص باعتباره تجربة، ولهذا كان تفاعلها مع الاختلاف البيّن بين «الموت» و«القتل» واضحا وجاهزا في وعيها، لأنّها تحاول التأسيس لـ«مجتمع النص» وهكذا، لا تخلو العملية النقدية ولا الإبداعية من تجربة، لأننا حينما نقرأ بوعي حياتي – الولوج إلى النص المعرّف كقدوم من الحياة، حسبانها مصدر إنتاجية الوعي بالمعنى – كتاب حنّا مينا «كيف حملت القلم» ربّما قد نعرف كيف نتصالح نقديا وجماليا وإنسانيا مع الوعي الماركسي في إنتاجيته لـ«نظرية الانعكاس».
(القدس العربي)