بعد فوز رواية “الجنقو: مسامير الأرض” للكاتب السوداني عبدالعزيز بركة ساكن، بجائزة الطيب صالح العام 2009، وعقب منعها في السودان بتهمة “خدش الحياء العام”، فازت الرواية أخيراً في ترجمتها الفرنسية التي أنجزها الكاتب إكزافييه لوفان، بجائزة الأدب العربي التي يمنحها معهد العالم العربي في باريس ومؤسسة لا غاردير.
والجائزة تسهم في ترويج الأدب العربي المكتوب بالفرنسية، أي الفرنكوفوني أو المترجم إليها، وتكافئ كل عام رواية، ولو أنها ليست في حجم الجوائز الفرنسية الرئيسة مثل “غونكور” أو “ميديسيس” و”فيمينا” وما سواها، فهذه الجائزة لا تشكل حتى الآن حدثاً أدبياً ولا إعلامياً في فرنسا، ولا تؤثر في حركة المبيع وجذب القراء، لكنها تخدم فعلاً الأدب العربي الفرنكوفوني أو المترجم إلى الفرنسية وتخلق جواً من المنافسة الجميلة بين الرواية العربية الفرنكوفوينة والرواية العربية المترجمة إلى الفرنسية. واللافت أن الرواية المكتوبة بالعربية تنافس بشدة الرواية الفرنكوفونية، وحتى الآن تبرز في لائحة الفائزين أسماء عربية معروفة مثل جبور الدويهي ومحمد حسن علوان وسنان أنطون وإنعام كجه جي ومحمد عبد النبي وسواهم.
غير أن رواية “لي جانغو” بحسب عنوان الترجمة الفرنسية، حظيت منذ صدورها قبل أشهر في باريس عن دار جويل، بترحاب إعلامي جيد، وأجمع نقاد في جريدتي “لوموند” و”ليبراسيون” وفي مجلات “لوبوان” و”ترانسفوج” و”جون أفريك” (أفريقيا الشابة) على نزعتها السوسيو ـ سياسية، وقدرتها على الدمج بين السخرية والفانتازيا في جو مأساوي، وعلى بعدها الإنساني والتزامها قضايا العمال الموسميين الذين يعملون في منطقة الحدود بين السودان وأريتريا وأثيوبيا. وعُدت الرواية من عيون الأدب السوداني ذي الهوية الأفريقية المنفتحة على العالم.
الترجمة المتقنة
وبالطبع أسهمت الترجمة الفرنسية كثيراً في إنجاح الرواية وتقديمها إلى القارئ الفرنسي في صيغة بديعة تضاهي الأصل، بل تتخطاه في لعبتها الأسلوبية التي تم مدحها في الصحافة، عطفاً على النفس الانسيابي والإيقاع السردي المنسرح اللذين تميزت بهما الترجمة، وجمعها المتانة والبساطة في التعبير.
ومن يقارن بين بضع صفحات من الرواية الأصل والترجمة، يدرك كيف أن النص المترجم يمكن أن يكون كتابة إبداعية جديدة للنص الأصلي، وقد نجح المترجم في التخلص من بعض “الوعورة” التي تسم النص العربي، وهي من خصائصه، وكذلك من بعض التعابير العامية والتراكيب المستهجنة، لمصلحة النص الفرنسي المتقن والحي.
ويبدو أن المترجم إكزافييه لوفان ليس غريباً عن عالم الروائي السوداني، فسبق أن ترجم له رواية “مسيح دارفور”. ولعل مثل هذا الكلام لا يقلل البتة من فرادة الرواية وقوتها، ومعروف أنها منعت في السودان بُعيد صدورها، وجاءت جائزة الطيب صالح لتكافئها من قلب المعترك. ويتضح أن الروائي عبد العزيز بركة ساكن (57 عاماً) تمكن من تحقيق خطوة مهمة وراسخة في الحركة الروائية السودانية، وشرع أبوابها على آفاق جديدة، مختبراً تقنيات السرد الحديث، وطارحاً أسئلة تصب في جوهر الأزمات الإنسانية.
تُذكر رواية “الجنغو: مسامير الأرض” في معالجتها أحوال العمال ومعاناتهم اليومية ببعض أجواء الروائي البرازيلي جورجي أمادو، لا سيما في تركيزه على قضايا البؤس والفقر والاستغلال. فالرواية السودانية تصور عالم العمال الموسميين الذين يسمون بـ “الجنقو”، وهم عادة يهجرون قراهم الفقيرة كي يوفروا قوتاً وعيشاً متواضعاً، آملين بتوفير مبالغ صغيرة من المال يعودون بها لتكون سنداً لهم ولعائلاتهم. يلتحق هؤلاء العمال بمزارع السكر وحقول السمسم ويدخلون المصانع ذات الآلات الهزيلة التي تزيد تعبهم. هكذا يتعرف القارئ الى أسماء أخرى لهم تتبدل خلال شهور السنة، ومنها “الجنقو” و”الفحامون” و”كاتاكو”. ووسط هذه المعاناة الجسدية والنفسية يبحثون عن لحظات متعة في قرية تدعى “الحلة”، منجذبين إلى كؤوس الخمرة الرخيصة وإلى أنفاس الحشيش الشعبي، ويقضون ليالي حمراء مع بائعات الهوى، مبذرين المال القليل الذي جمعوه من عرق جبنيهم.
تكشف الرواية عالم هؤلاء “الجنقو”، وتلقي ضوءاً على حياتهم الفردية والاجتماعية، وتقارب أحوال الشقاء الذي يقاسونه سواء في الظروف الطبيعية القاسية أم عبر استغلال أرباب العمل لهم ولأجسادهم، حتى بعد إدخال الآلات الزراعية الحديثة التي تحدث تطوراً في نوع العمل.
“ود أمونة”
ولا بد من التوقف عند شخصية رئيسة في الرواية هي “ود أمونة”، الذي يقع ضحية الحياة البائسة والأهل، فهو مجهول الأب وأمه ذات سلوك منحرف، مما يعني أنه محروم من أي اعتناء ومحبة.في سياق الرواية يُرمى “ود أمونة” الفتى الصغير مع أمه في السجن، فيحرم من المدرسة ويتم استغلاله جنسياً، وتُستغل أمه أيضاً ولكن للعمل خادمة في بيوت الضباط وأصدقائهم. لكنه وعلى الرغم من هذه الأجواء التاعسة يتمكن من التحرر والارتقاء والوصول إلى منصب لم يكن يتوقعه هو ولا حتى القارئ.
يحمل الروائي عبدالعزيز بركة ساكن شهادة في إدارة الأعمال من جامعة أسيوط في مصر، ويقيم حالياً في النمسا، وعمل مدرساً للغة الإنجليزية في الفترة من عام 1993 إلى عام 2000، وشغل مناصب عدة أبرزها مستشار لحقوق الأطفال لدى “يونيسف” في دارفور من 2007 وحتى 2008، ثم مديراً لمشاريع التنمية في صندوق تنمية المجتمع التابع للبنك الدولي في النيل الأزرق، إلى أن تفرغ للكتابة في صحف ومجلات عربية. وهو عضو في نادي القصة السوداني واتحاد الكتّاب السودانيين، وشارك في بعض البرامج العربية والعالمية مثل مهرجان الجنادرية ومهرجان القصة القصيرة في الأردن، وورشة “كتّاب تحت الحرب” في بروكسيل، ومهرجان الفنون بوابة للسياسة في فيينا عام 2013، وخلالها قرر المعهد العالي الفني بمدينة سالفدن سالسبورغ في النمسا تدريس روايته “مخيلة الخندريس” للطلاب.
ومن رواياته “ثلاثية البلاد الكبيرة” 2009، “العاشق البدوي” 2010، “الجنقو: مسامير الأرض” 2011، “مسيح دارفور” 2011، “مخيلة الخندريس” 2012، “الرجل الخراب” 2015، “مانفستو الديك النوبي” 2016، وله مجموعات قصصية عدة.
*اندبندنت