عبده وازن: روائيات إيرانيات يكسرن جدار السجن الكبير في الداخل… وأخريات يبدعن في المنفى

0

برزت منذ منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم في عواصم ومدن غربية، ظاهرة يمكن أن تسمى ظاهرة الكاتبات الإيرانيات المنشقات، وراحت هذه الظاهرة تتسع وتتعمق بعد خروج كاتبات من الجيل الجديد إلى المنفى هرباً من حكم الملالي، المتشدد والقاسي، وعقب إقبالهن على اختيار لغات أجنبية كالفرنسية والإنجليزية للتعبير. هذه الظاهرة لم يتمكن مثقفو النظام الخمينيّ من تجاهلها، لا سيما بعد الرواج العالمي الذي حصدته مقابل الحملات الداخلية المغرضة التي واجهتها. تعددت حقول اهتمامات هؤلاء الكاتبات، بين الإبداع الأدبي كالرواية والقصة والشعر وبين البحث النظري والنقدي والسوسيولوجي والفلسفي… واستطاعت بضع كاتبات أن تحقق شهرة واسعة مثل الروائية والأكاديمية اذر نفيسي صاحبة رواية “أن تقرأ لوليتا في طهران” التي كتبتها بالإنجليزية وصدرت في الولايات المتحدة عام 2003 وترجمت إلى لغات عدة. وجّهت هذه الرواية صدمة قاسية إلى الثقافة الإيرانية الرسمية، الأصولية والمحافظة. وفضحت أسراراً كثيرة في حياة الكاتبات ومعاناتهن الثقافية شبه اليومية، سواء في الجامعات أم في حلقات القراءة الجماعية التي تتم خفية، أم في مسلكهن الخاضع للرقابة الشاملة التي كانت تنتهي إلى ملاحقتهن واضطهادهن.

لكنّ ظاهرة صعود الرواية الإيرانية النسائية المكتوبة بالإنجليزية أو الفرنسية، في المنفى، تمثل وجهاً من حركة الرواية النسائية المكتوبة باللغة الإيرانية، داخل الوطن، والتي تحفل بأصوات مهمة جداً، تُرجم بعضها عالمياً وبقي كثير منها أسير اللغة الأم. وكانت صحيفة نيويورك تايمز رصدت سابقاً في تقرير لها من طهران صعود ظاهرة الكتابة النسائية وطغيانها على مشهد النشر في إيران، وأحصت نحو 370 كاتبة برزن منذ التسعينيات من القرن المنصرم، وكدن يزاحمن الكتّاب، لا سيما في حقل الرواية. وبدا تزايدهن لافتاً جداً، فعددهن ازداد ثلاثة عشر ضعفاً العقد الأخير.

هكذا بدت الروائيات المهاجرات أو المنشقات والروائيات المقيمات في إيران يتآزرن ليصنعن المشهد الروائي النسائي الشامل الذي جدد مسار الرواية الإيرانية المعاصرة. وإذ بدت الروائيات المهاجرات يتمتعن بفسحة واسعة من الحرية ليعبّرن عن آرائهن ومواقفهنّ المعارضة، فإن الروائيات المقيمات كنّ جريئات جداً في تحطيم الكثير من القيود ومواجهة الرقابة بذكاء ومهارة.

روايات المنفى

وعودة إلى رواية “أن تقرأ لوليتا في طهران” توضح أنها افتتحت موجة من الأدب الإيراني النسائي الاغترابي، الأنغلوفوني والفرنكوفوني، الجديد الذي لم يكن معهوداً كثيراً وفتحت الباب أمام تجارب مهمة أعقبتها. ففي باريس على سبيل المثل صدرت أربع روايات بالتتالي لأربع كاتبات إيرانيات اخت اللغة الفرنسية أداة تعبير هرباً من الحصار الذي يهيمن على الأدب الإيراني في الداخل. والروايات هذه تنم عن تجارب مهمة في حقل السرد الروائي ذي النزعة الواقعية. “أزادي” لسيدة باكرافان (دار بلفون- باريس) رواية غاية في الجرأة والعمق، تفضح مساوئ النظام القمعي الذي يسعى إلى تجريد الأجيال الجديدة من حقوقها الشخصية، ويأسرها في خانة أيديولوجيته الأصولية. بطلة الرواية “رها” تواجه سلطات الأمن وحراس الأخلاق فتُسجن وتُضطهد وتُعزل وتفشل في تحقيق أحلامها التحررية وفي مواجهة السلطات المتكافئة ضدها. في حوار صحافي معها نقلت سيدة باكرافان عن سينمائي إيراني قوله: “كلنا مسجونون. هناك مَن هم في السجن والآخرون يجدون أنفسهم في سجن كبير هو البلاد”. أما بطلتها “رها” فهي سجينة السجنين في آن: الزنزانة والوطن.الرواية الأخرى هي “أطفال جاكاراندا” (كتاب الجيب) للكاتبة الإيرانية المنفية، التي تحيا في إيطاليا وتكتب بالإنجليزية، سحر دليجاني. هذه الكاتبة تتمتع بشهرة واسعة في العالم، أعمالها ترجمت إلى لغات عدة، وغالباً ما تمثل الأدب الإيراني المنفي في معارض الكتب والندوات العالمية. وهي كانت ولدت في أحد سجون طهران عام 1983 بُعيد الثورة الخمينية وعقب أسر عائلتها كلها بتهمة المعارضة. وفي الولايات المتحدة منفاها الأول أصدرت دليجاني روايتها “في ظل الشجرة البنفسجية” التي عرفت نجاحاً وترجمت إلى لغات شتى. أما روايتها “أطفال جاكارندا” فتعري الثورة وتكشف مصائر المعارضين للنظام الخميني، لا سيما بعد الحرب الإيرانية – العراقية، وقد أعدمت منهم أعداداً هائلة دفنوا كلهم في مقابر جماعية حفرتها الجرافات. وبين هؤلاء المعارضين المقتولين مثقفون كثيرون وكبار اتهموا ظلماً بالكفر والتجديف. في هذه الأجواء تدور أحداث الرواية التي تجمع بين السرد الواقعي والتوثيق والتخييل. وصدرت أيضاً في باريس رواية هي أقرب إلى الرواية- التحقيق وعنوانها “أكتب لكم عن طهران” (دار غراسيه)، وصاحبتها دلفين مينوي كاتبة وصحافية، إيرانية الأب، فرنسية الأم، مراسلة جريدة الفيغارو الفرنسية من إيران ومصر ولبنان. رواية أو نص سردي يتضمن وقائع رهيبة ويوميات وتفاصيل عاشتها الكاتبة خلال السنوات العشر التي قضتها في إيران، وكانت خير شاهد على ما جرى ويجري، علانية أم وراء الكواليس. وقد استخدمت عين الصحافية الموثقة والمدققة، وأسلوب الكتابة المشبعة بالوجدانية، لاسيما أنها شاءت كتابها عبارة عن رسالة تكتبها إلى جدها لتروي له بحنين وألم، أين أصبحت طهران وكيف أمست. روائيات الداخل

في كتابها الصادر بالفرنسية عن دار لارماتان في باريس وعنوانه “الكلمات والتحديات” تتناول الناقدة الإيرانية الفرنكوفونية ليلى فولادفند الرهان الذي تخوضه روائيات إيرانيات بجرأة في ظل الحكم الديني المتشدد ويواجهن من خلاله، الرقابة الرسمية القاسية التي رحن يلتففن حولها ليؤكدن أن المسألة النسائية هي شرط بارز من شروط تحرر المجتمع الإيراني من ربقة الملالي، وتوجهه نحو الديموقراطية الحقيقية. وسعت هؤلاء الكاتبات بجسارة إلى إسقاط كل أوهام حقبة ما بعد الثورة الخمينية، داعيات إلى إحقاق الحرية العامة والشخصية وإلى نشر ثقافة التسامح والاختلاف والانفتاح على الآخر… وفي الروايات النسوية التي غالباً ما تميل إلى الواقعية تبرز قضايا ملحة كالهوية النسائية، الذات الشخصية، حياة الجماعة، القمع، الهيمنة الذكورية، الرقابة الشاملة…

خلال خمس عشرة سنة أصبحت الكاتبات سيدات المشهد الأدبي في إيران. وفي معالجتهن قضايا حياتهنّ اليومية تعكس رواياتهنّ حال التطورات الاجتماعية التي شهدتها البلاد منذ ثورة الخميني عام 1979. وتحتل روايات ومجموعات قصصية نسائية الواجهات في مكتبات إيران. وأعمالهنّ هي الأكثر مبيعاً والأكثر إعادة طبع. علماً أن المرأة في إيران لا تتمتع بما يتمتع به الرجل من حقوق. حضانة الأطفال تعود إلى الأب بدءاً من سن السابعة، شهادة المرأة توازي نصف شهادة الرجل، ولا يمكنها طلب الطلاق إلا في حالات نادرة ومنها معاقرة الزوج الخمر أو المخدرات، بينما لا يحتاج الرجل إلى أي ذريعة ليحصل على الطلاق.

في الستينيات من القرن الماضي كانت إيران تعدّ نحو أربعين روائية، أقل خمس مرات من عدد الروائيين. وبين 2001 و2011 أصبحت الروائيات أكثر من الروائيين عدداً. رواية الكاتبة الشعبية والمعروفة عالمياً من خلال الترجمة زويا بيزار “أنا من يطفئ النور” بلغت أرقام مبيعها مئة وسبعين ألفاً (170000). وشكّل هذا الرقم حدثاً في بلاد تلقى فيها الأعمال الأدبية الجيدة قلة من القراء، على خلاف الروايات الخفيفة التي تضم قصص حب غير منطقية، ويتسم أبطالها بالخفة والسطحية وتبدو لغتها ركيكة وخالية من المتانة. وفي إيران روايات كثيرة لا تتخطى طبعتها الألف نسخة وأقل. وفي هذا السياق الذي يؤكد عدم الإقبال الكبير على القراءة تطرح أسئلة عدة: من أين يأتي هذا الشغف بالأدب النسائي؟ كيف تجد هؤلاء الروائيات جمهوراً حقيقياً، بينما القراءة ليست من العادات المفضلة لدى الشعب الإيراني؟

وإذا كانت كاتبات إيرانيات يُقبلن اليوم على الكتابة بحماسة وإصرار، فلأن وضعهنّ أولاً شهد تغيّراً ملحوظاً منذ عقود. فهنّ كنّ مأسورات فترة طويلة داخل فضاءات المنازل المغلقة، وكنّ يواجهن غالباً تقليداً اجتماعياً يقضي بأن مستقبلهنّ هو أن يكنّ بالأساس زوجات وأمهات. والإيرانيات اللواتي كان لهن امتياز أن يصبحن كاتبات، وهنّ قليلات، كنّ يتحدرن من طبقات بورجوازية ومثقفة ومنفتحة على الغرب. وما كنّ يروين سوى قصص هذه البيئة الثرية، المقتطعة من المجتمع الإيراني “الأبوي” والتقليدي. لكنّ الثورة استطاعت أن تحدث تحوّلاً واضحاً في عمق هذا المجتمع. وبرزت في السجال العام موضوعات مثل: الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الطبقات، وقد أثرت في الرجال كما في النساء. إلا أن الدولة الإسلامية سرعان ما راحت تفرض مبادئها بل قواعدها على الحياة العامة، فمنعت الاختلاط بين الذكور والإناث، وقد وصفته بـ “غير المجدي”، وانعكس هذا المنع على حياة العائلات كما على النساء أنفسهن. وعندما اندلعت الحرب الإيرانية العراقية عام 1980 التحق بها عدد هائل من الشبان والرجال وكانت كلفتها باهظة جداً، ويقال إن ضحاياها تخطوا المليون. ولعل التحاق الشبان والرجال بالحرب سمح للنساء أن يحللن مكانهم في المصانع والمستشفيات والمزارع والإدارات الحكومية وسواها. فازداد عدد الطالبات في الجامعات حتى بلغ نسبة 51 في المئة بعد سنوات، وراحت تبرز شيئاً فشيئاً ظاهرة الكاتبات. تقول الروائية المعروفة فاريبا فافي (53 سنة)، إن النسوة المتعلمات اللواتي وجدن لنفسهن فسحة في المجتمع ما بعد الحرب الإيرانية – العراقية كنّ يشعرن بحاجة ماسة إلى التعبير عبر الكتابة. وبدا ملحوظاً ارتفاع عدد الكاتبات بين 1991 و2001 حتى بلغ 370 كاتبة يقدمن أعمالهنّ الأولى. أصوات نسائية مختلفة بعضاً عن بعض، لم يأتين من الأحياء الثرية في طهران وإنما من كل المناطق، وكل الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. وهنّ يتحدثن عن عالم غير مألوف روائيا وأدبياً، وعن علاقات لم يتم التطرق إليها سابقاً، وعن هموم وقضايا تعني المرأة بمقدار ما تعني المجتمع ككل، وعن معاناتهنّ ومشاكلهنّ اليومية والإنسانية، ومواجهتهنّ التابوات والمحرمات التي لم يكن مسموحاً الاقتراب منها. وبرزت روايات تميل إلى السيرة الذاتية والحياة الخاصة والعامة. كتبت بعض الروائيات عن قضية تعدد الزوجات والزواج القسري والزواج المؤقت، عن الطلاق الذي يملك الرجل قراره والعلاقات المعقدة بين الزوج والزوجة، وعن الانتحار وإدمان المخدرات… وكي يواجهن الرقابة الرسمية كنّ يلتففن حول موضوعاتهنّ معتمدات التورية والترميز والإبهام والتعقيد، مما كان يسمح لهنّ بالاقتراب من الخطوط الحمر من دون تخطيها.

مآسي الحربتتطرق الروائية سبيدي شاملو (50 سنة) في روايتها “كأنك قلت ليلي” إلى حياة امرأة فقدت زوجها في الحرب الإيرانية – العراقية وكيف واجهت حالاً من القلق عندما أصبحت أرملة وراحت تناضل وتواجه الأحكام الجاهزة ضدها وكذلك الممنوعات والخرافات والجهل، كاسرة الخوف لكي تبدأ حياتها من جديد. أما الروائية فاريبا فافي فتقول علانية إنها تكتب لأنها لم تجد نفسها في وجوه البطلات اللواتي يحضرن في الروايات التي يكتبها الرجال. وقد بحثت كثيراً في الأدب الإيراني عن صورة أمها وأختها وحتى عن صورتها، فلم تجدها. فالنساء اللواتي يكتب عنهنّ الرجال يخضعن لمفهوم “الكليشه”، فهنّ إما نساء عاديات بحسب التقاليد المعروفة وإما غير واقعيات وأثيريات ولا علاقة لهنّ بما حولهنّ من قضايا وشجون. وفي روايتها “تارلان” تترك البطلة مدينتها مسقط رأسها تبريز، متجهة إلى طهران لتلتحق بمعهد الشرطة وتقيم دورة فيه طوال عام. وفي الوظيفة تسعى البطلة إلى عيش حياة تختلف تماماً عن حياة والدتها القائمة على مبدأ الخضوع من دون شكوى أو اعتراض. الروائية فارخونده أغايه تسعى في روايتها “الجنس المفقود” أن تكسر التابو من خلال شخصية رجل تحوّل جنسياً وأصبح امرأة بعد عملية جراحية. وإذا كانت عمليات التحول الجنسي مسموحة الآن في إيران تحت إشراف “السلطات” الطبية، فالأشخاص المتحولون يواجهون مشكلات عدة، فالعائلة تعدّ التحول الجنسي فضيحة يجب التستر عليها، ناهيك عما يعاني المتحولون من تعنيف جسدي أحياناً في الشارع أو الساحات. وهذا فعلاً ما نجحت الروائية في التعبير عنه وفي نقل معاناة البطلة إزاء تصلب المجتمع المحافظ ورفض فكرة التحول وعدم فهمها. الروائية الشابة ابنة الثلاثين سنة مريم جاهاني تتطرق في روايتها “هذه الجادة لا بطء فيها” إلى حياة امرأة تعمل سائقة تاكسي ومعاناتها اليومية والقاسية في مجتمع يرفض فكرة أن تتولى المرأة مهنة سائقة تاكسي وينظر إليها نظرة دونية. وما يجدر ذكره في هذا الصدد رواية “حجاب طهران” للكاتبة الإيرانية برينوش صنيعي. والرواية هذه نسائية في معنى أنها تسرد مأساة فتاة إيرانية يمكن اعتبارها نموذجاً حياً للمرأة الإيرانية التي تعيش حالاً من الخناق وليس الحصار فقط، عاطفياً وإنسانياً وثقافياً واجتماعياً.لعل ظاهرة صعود الرواية الإيرانية النسائية في قطبيها الداخلي والخارجي، تعبر عن حاجة الكاتبات (والكتّاب أيضاً) إلى كسر حواجز الحصار والرقابة والخوف وإلى الخروج إلى هواء الحرية. إنها روايات جريئة، صارخة، معترضة ومحتجة ولكن بعمق ووعي تقني وجمالي.

المصدر: اندبندنت

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here