كيف وصلنا إلى هنا؟
من أين جاء كل هذا التطرّف دفعة واحدة؟
لماذا تبدو محاولات تغيير واقع العالم العربي غير مُجدية ويائسة بالنسبة للبعض ربما؟ وهل اعتاد الناس على ما هُم عليه إلى هذا الحد الذي جَعَلهم غير قادرين حتى على تصوّر طريقة مُجرَّبة ومُجدية للعيش؟ ما السر خلف العدائية التي تُظهرها مجتمعاتنا لمفاهيم وتعريفات كـ الديموقراطية، العلمانية، أو حتى «الزواج المدني»؟
هل الإشكال مفاهيمي بالدرجة الأولى؟ هل لدين الأفراد علاقة بما يجري؟ أم الديكتاتور الذي تسبب بوضع اقتصادي وثقافي سيء انعكس على واقع حياتهم بما هو أسوأ؟ كيف ابتُلينا بثنائية الإسلام الراديكالي من جهة والديكتاتورية العسكرية من جهة أخرى؟ …
أسئلة كثيرة، ستحاول هذه السلسلة من المقالات الإجابة عليها، وذلك من خلال الوقوف لدى المقدِّمات المُسبقة لما جرى، وتتبع خيوط تلك المقدِّمات بإشكالياتها الأكثر أهمّية، وتطوراتها مع مرور الوقت، على أن تكون مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية نقطةَ البداية لأسباب عديدة، لعل أبرزها بداية تخلّص شعوب المنطقة من أشكال الانتداب الأجنبي على أراضيها، حين التقَفَتها أيدي أبنائها سياسيين وعسكريين تعهّدوا آنذاك بخلق واقع أفضل.
سيد قطب و جمال عبد الناصر
«صغيرتي .. الجو بارد في الخارج»
في العام 1949 اتجه مفتّشُ مدرسة في أواسط عمره من «مصر» إلى بلدة صغيرة تدعى «غريلي» في ولاية (كولورادو) الأميركية لدراسة نظامها التعليمي، يُدعى «سيد قطب».
كان (مُقدّراً) لهذا الرجل أن يكون أكثر بكثير من مجرّد مفتّش مدرسة، فمن خلال «خبراته» عن أميركا في صيف ذاك العام، وبحثهِ فيها عن هويّة يتصوّرها، سيقوم هذا المفتّش بوضع مجموعة من الأفكار التي كان يَعتقد أنها قادرة على بناء دولة ومجتمع، لا أن تكون مَصدر إلهامٍ مباشر للديكتاتورية وأحد أشكال معارضتها، والملهِم لكل ما سيحدث بعد هذا التاريخ من جهل وتخلف وانغلاق في العالم العربي!.
بعد أن جابَ أنحاء الولايات المتحدة، ازدادت خيبة أمل قطب فيها… ذاتُ الأشياء التي جعلت الولايات المتحدة تبدو مزدهرة وسعيدة، رآها قطب كعلامات فساد وتحلّل داخلي؛ عصرُ الرئيس «ترومان» الذي يَعتبره الأميركيون جزءاً من العصر الذهبي لحضارتهم كان بالنسبة لقطب شيئاً شريراً يَنطقُ بالغِلطة والفساد والسوقيّة؛ الأحاديثُ عن نجوم السينما، إنفاقُ الناس الكثير من الوقت للاعتناء بحديقة المنزل، تهذيبُ الأشجار وقصّ الحشائش…
كانوا بالنسبة له دليلاً على الجانب الأنانيّ والمادي في الحياة الأميركية، إنها -حسبما يصفها قطب- «ذوق أميركا».
في إحدى الليالي الصيفيّة ذهبَ إلى حفلٍ راقص في قاعة كنيسة محلّية، وكتبَ فيما بعد أن ما رآه في تلك الليلة قد «أزال الغشاوة» عن عينيه، حيثُ تحدَّث عن أن راعي الكنيسة أدارَ على الفونوغراف إحدى أشهر الأغاني وقتذاك (Baby It’s Cold Outside) وأنه جعل الإضاءة خافتة ليخلقَ جواً رومنسياً حالماً فـ«تلاقت الصدور بالصدور، والتفّت الأذرع حول الخصور، وامتلأت القاعة بالحب والشهوة»..
الراقصون أمام قطب كانوا أرواحاً مأساوية ضائعة، اعتقدوا بأنهم أحرار، لكنهم كانوا عبيداً لرغباتهم الأنانية الحيوانية النهمة، وهذه الأوصاف كفيلة -حسب اعتقاده- بتدمير الوشائج التي تُبقي على المجتمع متماسكاً. كان كل مايراه قطب يعبّر عن واقعٍ خفيّ وخطير كامنٍ وراء المظهر الخارجيّ للحياة الأميركية، لذلك صمّم الرجل في تلك الليلة على أن يمنع هذه (الحضارة القائمة على الأنانية الفردية حسب تعبيره) من الدخول إلى بلاده.
لقد قام الجلادون في سجون ناصر بإطلاق العنان لفنون من التعذيب ضد أعضاء الجماعة الذين اتُّهموا بالتآمر للإطاحة بالرئيس، وعلى حسب شهادات ناجين فقد قام الجلادون في إحدى مراحل التعذيب بدهن جسد قطب بدهون حيوانية، وحَبْسِه في زنزانة مع كلاب مدرَّبة على مهاجمة البشر، ليُصاب بأزمة قلبية؛ وهنا كان لابدّ من الوقوف مليّاً لدى تعامل ناصر الوحشي مع الإخوان آنذاك.
الجماهير ضالّة وينبغي الأخذ بيَدِها
في العام 1950 غادر سيد قطب الولايات المتحدة عائداً إلى مصر، عاقداً العزم على إيجاد طريقة للتحكم في قوى (الأنانية الفردية) التي سترِد كثيراً في هذا المقال على ما يبدو، فهي (شُغله الشاغل الآن)….
أثناء سفره كان مفتّش المدرسة يتصور نوعاً جديداً من المجتمعات، نوعاً يتمتّع بالمزايا العصرية للعلوم والتكنولوجيا الغربية، على أن يلعب الإسلام بشكل سياسي دوراً محورياً فيه لكبح جماح تلك الفردانية، الأمر الذي سيوفر إطاراً أخلاقياً يمنع رغبات الناس من أن تتغلّب عليهم، على حد اعتقاده.
لكن ما إن وصل «قطب» مِصراً حتى أدرك أن (الثقافة الأميركية) قد بدأت بالفعل انتشارها في بلاده، سينما مستوردة ومحلّية، أغانٍ وحفلات…
كان كل شيء حوله يعمل على الإيقاع بالجماهير في حبائله المضللة، كان قطب على قناعة بأن هذه الثقافة قد أفسدت عقول المسلمين، وحولتهم إلى كائنات أنانية تهدّد بتدمير القيم المشتركة التي تُبقي على تماسك المجتمع المصري، لذلك كان المطلوب في اعتقاده «طليعة من النخبة» بإمكانها أن تُدرك حقيقة (أوهام الحرّية)، ومن ثمّ تقود الجماهير إلى إدراك «الحقيقة الأسمى».
كانت الجماهير بالنسبة لقطب بحاجة لمن يقودها ويُرشدها لأنها «ضالة»، لذلك يجب أن تتولى تلك (الطليعة) مسؤولية إخراج الناس من الظلمات إلى «نور الإسلام»، بدلاً عن أن تظل الجموع مستسلمة لرغباتها المستفحلة؛ ولذلك أراد قطب أن تكون (الطلائع) مختلفة عن باقي الناس، أن تكون من «الأنقياء» المتعاضدين المتّفقين على وضع حد للواقع المصري الفاسد حسب تصوره.
وهكذا أصبح قطب ناشطاً سياسياً، وانضم لجماعة «الإخوان المسلمين» التي كانت تبتغي دوراً أساسياً في إدارة المجتمع المصري، وتصنّف نفسها آنذاك كـ حركة «إصلاحية».
كانت بداية العلاقة بين قطب والإخوان كتابُه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» حين كتب في إهدائه: «الفتية الذين ألمحُهم في خيالي قادمين يَرُدّون هذا الدين جديداً كما بدأ، يقاتِلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتلون»؛ حينها فهمت الجماعة أن قطب يغازلها، فاهتمّت لأمره واعتبرته صديقاً، إلى أن بات فيما بعد مسؤولاً عن «القسم الدعَوي» فيها.
خلال العام 1952 ساند الإخوان المسلمون الثورة التي قادها المقدّم آنذاك «جمال عبدالناصر»، والتي أطاحت بآخر ما تبقى من الحكم البريطاني، سرعان ما أوضح ناصر أن مصر الجديدة ستكون «مجتمعاً علمانياً يحاكي القيم الغربية»، وشكّل تحالفاً مع الولايات المتحدة؛ ولمواجهة ذلك، قام الإخوان المسلمون بتنظيم أنفسهم ضد ناصر، وفي عام 1954 ألقيَ القبض على قطب وعناصر قيادية أخرى من الجماعة.
صغيرتي .. الجو بارد في الداخل أيضاً
ما حدث لقطب بعد ذاك التاريخ (1954) كان له عواقب وخيمة على العالم بأسره…
لقد قام الجلادون في سجون ناصر بإطلاق العنان لفنون من التعذيب ضد أعضاء الجماعة الذين اتُّهموا بالتآمر للإطاحة بالرئيس، وعلى حسب شهادات ناجين فقد قام الجلادون في إحدى مراحل التعذيب بدهن جسد قطب بدهون حيوانية، وحَبْسِه في زنزانة مع كلاب مدرَّبة على مهاجمة البشر، ليُصاب بأزمة قلبية؛ وهنا كان لابدّ من الوقوف مليّاً لدى تعامل ناصر الوحشي مع الإخوان آنذاك.
نجا قطب من الموت، لكن كان للتعذيب في سجون ناصر أثر قوي وراديكالي على أفكاره، كان يعتقد أن أفكار الغرب العلمانية هي التي خلقت الأنانية التي رآها في الولايات المتحدة، لكن التعذيب الذي تعرَّض له داخل السجن دفعه إلى تصوّر فكرة أكثر كارثية مَفادها أن تلك الأنانية التي دخلت مصر أطلقت العنان أيضاً لأكثر الجوانب وحشية وهمجيّة في الإنسان، بمعنى أنه اعتقد بأن تعذيب السجانين له بهذا الشكل هو كذلك جزء من الثقافة العلمانية الغربية وأحد معانيها وتجلّياتها!.
هنا كان لابدّ من الوقوف وقفة أخرى، لكن هذه المرة لدى المغالطة اللغوية والإشكال المفاهيمي الحاصل كـ رد فعل، والذي سيظل قائماً باتّساع منذ ذلك التاريخ (1954) إلى أيامنا هذه وحتى مستقبل غير معلوم، إشكال له علاقة وثيقة بسوء تصوّر مجتمعاتنا الحالية لأبسط المفاهيم والتعريفات، وسوء الفهم هذا الذي (سيكرّسه الديكتاتور ليستغلّه في توطيد حكمه لاحقاً) ستنطوي عليه ردود أفعال خطيرة وكارثية دَفعت وتَدفع وسَتدفع ثمنها أجيال متعاقبة طيلة عقود.
اعتقدَ قطب بعد التعذيب أن الغرب يحمل للعالم أجمع مرضاً يدعى «الجاهلية»، وهي حالة من الجهل المستفحل، وأنّ ما يجعل هذا المرض خبيثاً ومرعباً على حد تصوّره هو أن الناس لم يكونوا مُدرِكين أنهم مُصابون به، إنما كانوا يعتقدون بأنهم أحرار، وبأن ساستهم يسيرون بهم قدُماً إلى عالم جديد، لكنهم في الواقع يرتدّون إلى عصر همجي.
تلك «الجاهلية» حسب قطب هي شديدة الخطورة، ليس لأنها مدعومة فقط من قوى الغرب، إنما لأن المسلمين أنفُسَهم مصابون بها، ما يجعل الإسلامَ مهدّداً من الخارج الغربي، والداخل أيضاً…
المصدر : درج