جاءني يبكي فبادرته من فوري: “لا تبكِ يا بنيّ، قد أصبحت رجلاً!”. نظرته المشدوهة وهو ابن الأعوام الستة كانت كافية لأتراجع عن هرائي، فهل يجب أن نعتذر لأبنائنا عن ما ورثناه من دون انتباه من أفكار مغلوطة وبديهيات يظهر عيبها لمنطق الطفل الصغير؟
في ريفنا البعيد تقسو قلوب الرجال كالحجارة الزرقاء لا تكسرها إلا عصا النبي أو مطرقة الزمن، في حين تتشقق قلوب النساء كالأرض لا يبللها إلا البكاء، وكشيء موروث من قبيل “ابكِ مثل النساء ملكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال”، تصبح عيون الذكور زجاجية جافة في حين تنفجر الينابيع في عيون الإناث، وكلٌّ يتشبّث بطبيعته مع التقدم في السن؛ كأن بكاء الذكور دالٌّ على قلّة الرجولة وهاتيك لقدسيّتها (وربما… دلّ على السخف، وقُضي على صاحبه بالهلع، وشُبّه بالأمَة اللكعاء وبالحدث الضرع)، على مبدأ قول مسلم بن الوليد:
لولا مداراة دمع العين لانكشفت
مني سرائر لم تظهر ولم تُخَلِ
أمي كانت تقول: “إن لأبيكم كأساً نديّة، وكفّاً نديّة، وعيناً نديّة” أما أنا فلم أره يبكي إلا في شبابي حين توفّي عمّي الأصغر؛ حثّني نحيبه المكتوم على البكاء، فأجهشت وبكيت. منذ ذلك الحين لانت قشرة القلب وابتلّ ريق العين.
وقد جاء في توطئة البخلاء للجاحظ:
“وأنا أزعم أن البكاء صالح للطبائع، ومحمود المغبّة، إذا وافق الموضع، ولم يجاوز المقدار، ولم يعدل عن الجهة، ودليل على الرقة، والبعد من القسوة، وربما عدّ من الوفاء…”.
وروي عن شكوى سليمان بن عبد الملك من جمرة في كبده لا يطفئها إلا عبرة حين مات له ولد، وبخلاف عمر بن عبد العزيز الذي نصحه بالصبر أشار عليه رجاء بن حيوة أن يفيضها، فأرسل سليمان عينيه حتى قضى أربه ثم قال: “لولا أن نزفت هذه العبرة لانصدع كبدي. كذلك، جزع جعفر بن علي على ولد له قُتل، فقام إلى ولد كل ناقة وشاة فذبحه وألقاه أمامها، فما زالت النساء تبكي والنوق ترغو والشياه تيعر وهو يبكي معهم؛ وعلى نفوري من فعله وقسوته إلا أنه يذكّرني بقول الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي
على أمواتهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلّي النفس عنه بالتأسي
يندر في أيامنا أن يُبتلى أحدٌ بعين كعين عامر بن عبد قيس الذي قال وهو يضربها: “جامدة شاخصة، لا تندى”، أو من هم كيعقوب النبي أو كصفوان بن محرز فيبكون حتى يعموا، لكن زماناً متوحشاً كزماننا يجعلنا ننقّب عن حجّة للبكاء في أبسط التفاصيل، فما من أمر محزن إلا وله انعكاس في نفوسنا، من كيس الحرب الذي نحمله فوق ظهورنا إلى انكسارنا أمام موظفي الهجرة وفي أثناء مقابلات اللجوء وفي الحوافل المكتظة، وارتيابنا من همس الآخرين ونظراتهم التي تطاردنا كالعسس، ووسواس إغلاق الأقفال الثلاثة قبل النوم، وفزعنا من الألعاب النارية وصوت سيارات الإسعاف وسيارات الشرطة، والخوف على الطفل في عامه الدراسي الأول. يقول فهد العسكر في شعرٍ له:
كم ضعيف بكى ونادى فراحت
لبكاهُ تقهقه المدفعية
لغة النار والحديد هي الفصـ
ـحى، وحظّ الضعيف منها المنيّة
وكما يخرج الناس للتسوق قبيل الأعياد وإلى المتنزهات أيام الربيع وإلى الشواطئ أيام الصيف، صار ضروريا التفكير بوقت ومكان مخصص للبكاء، نلتقي فيه، نتبادل الحزن كالهدايا، فيصبح بيننا دمع وملح، نحكّ ذاكرتنا لكي لا تنطوي، إذ إن سجلّ الضحايا يسقط من حبر التاريخ ومن عين الزمن، وفجيعتهم لا تغيّر شيئاً في سنّة الكون على رأي أحمد شوقي:
ولو آبت ثواكل كل قرن
وجدن الشمس لم تثكل شعاعا
عثرت في مطلع هذا الشهر على مسرح للبكاء، حين عُرض فيلم (من أجل سما) في سينما أطلس بإسطنبول، مخرجة الفيلم وعد الخطيب قالت على باب صالة العرض إنه لا يصح أن تشاهد ابنتاها –وهما ابنتا الحصار والحرب – الفيلم وهما في هذه السن، أما أنا فتكوّرت كالطفل فوق أحد المقاعد وسمح لي الحضور الشحيح بممارسة عادتي الخفيّة بالبكاء، بكيت على كل شيء ولكل شيء، من نار يمكن أن تحرق البيت ومن فيه، وركلة لا يزول أثرها عن الوجه، ورصاصة تثقب الرأس لتضع نقطة في آخر سطر… بكيت على ابني الذي جاءني يبكي على قطته (ميمي) وكانت خرجت من المنزل فدهستها سيارة ما، وهو يلقي باللوم على فتاة التنظيف التي كان بإمكانها أن تنقذها، وبعد أن انتبهت لحمقي حين طلبت منه عدم البكاء وكذبت عليه بأنه (صار رجلاً)! حضنته وبكيت معه حتى اكتفى واكتفيت، وأنا أتمثل قول أحدهم: “والله ما بكيت عليك، وإنما بكيت لك… ولقد شغلنا الحزن لك من الحزن عليك”، وأقول في نفسي:
كالوجه والمرآة؛ يشبهك التحاكي
ما زلتَ يا وطني مليئاً بالبكاء
وبالتباكي
*تلفزيون سوريا