لا يوجد دليلٌ موحّد يمكن اتباعه في تحكيم الأعمال الأدبية والفكرية، إنما توجد خطوط عامة يهتدى المحكّمون بها، ومع ما في تلك الخطوط من مرونة في استيعاب الأعمال، والحكم عليها، فيجب على كل لجنة من لجان التحكيم، في شتى الأنواع الأدبية والفكرية، أن تضع إطارا للتحكيم تقرأ المؤلّفات من خلاله، ومع ما أدعو إليه من مرونة، فأنا من أشدّ أنصار الاتفاق على هيكل صارم يراعي أعراف النوع الأدبي الذي تكون الجائزة عليه، في الرواية، أو القصة القصيرة، أو الشعر، أو المسرحية المكتوبة، وحتى الأعمال النقدية والفكرية، فمن دون الانتهاء إلى هيكل خاص بكل حقل يمكن أن تحلّ الفوضى في أعمال التحكيم، ويقع النظر إلى الأعمال المتنافسة فى ضوء معايير لا علاقة لها به.
١
وفى ظل غياب هيكل لتحكيم الأعمال الأدبية والفكرية، وهو متعذّر الظهور بصورته الكاملة، فلن أطيل الحديث فى ذلك، إنما سوف أتحدّث عما استخلصته فى التحكيم خلال عشرين عاما، ففضلا عن فوزى بجوائز عدة، أهمها جائزة الملك فيصل فى الآداب، وجائزة الشيخ زايد فى النقد، وجائزة شومان للعلماء العرب.
وفيها كانت حالى حال من تعرّضت أعماله للتحكيم، فقد توليت التحكيم فى معظم الجوائز المعروفة، وتوليت وضع هياكل التحكيم فى بعضها، ورأست لجان التحكيم فى أخرى، وكتبت بنفسى التقارير النهائية، كما أدرت أعمال إحدى أكبر الجوائز العربية مدة طويلة.
وبذلك سوف أتحدّث من واقع تجربتى الشخصية والنقدية فى التحكيم بصرف النظر عن هوية الجائزة سواء كانت عن الرواية أو القصة القصيرة أو عن النقد أو الأعمال الفكرية.
٢
أول ما أراه من الضرورات اللازمة فى التحكيم، هو أن تكون لجنة التحكيم لها رأى صريح مكتوب ومعروف ومنشور على نطاق واسع بالنوع الأدبى والفكرى الذى تحكّم فيه، ولا ينبغى الخلط فى ذلك، فناقد الأعمال السردية لن يتأتى له الانتهاء إلى حكم دقيق بشأن الشعر حتى لو كان قارئا للشعر.
ومحبا له، وأستاذا جامعيا فيه، وبالقطع، سوف تنقص ناقد الشعر العدة المنهجية، والمفهومية للسرد إن هو تولّى الحكم عليه، فنحن أمام ظواهر لها أعرافها، وتواريخها، ولغاتها، وأنسابها، وينبغى وقف العشوائية فى التحكيم.
وقبل ذلك ينبغى على المسئولين عن الجوائز، إذا كان فى حسبانهم صون الجوائز التى يشرفون عليها، أن يترفعوا عن كل تواطؤ فى اختيار لجان التحكيم، أيا كان نوع التواطؤ فى الاختيار، ويدققوا، ويستشيروا، ويبحثوا طويلا، قبل الانتهاء إلى اختيار لجان التحكيم فى الجوائز التى يشرفون عليها.
ولا ضير فى الاستئناس بأهل الخبرة فى ذلك، وحذار من الانخداع بأصحاب الألقاب العلمية الفخمة، فمصدرها، فى الغالب الأعم، ليس الجهود الفكرية والنقدية الكثيرة، إنما البحوث المدرسية التى تأتى بتلك الألقاب، كما لا أحبذ الانبهار الزائد بكبار الشعراء أو الروائيين أو القصاصين.
والتعجل فى اختيارهم فى لجان التحكيم، فالغالب ميلهم إلى قسر الأعمال إلى ما يناسب تجاربهم، وكل مالا يوافق ذلك يقع استبعاده، وإلحاق الضرر فيه.
٣
إذا، ينبغى أن يكون لأعضاء لجان التحكيم رأى واضح بالحقل الذى يحكمون فيه، رأى يقول بضرورة تماسك النصوص، واتساق موضوعها، ورفعة أسلوبها، وجدة أفكارها، وعلى تلك اللجنة الا تغامر بسمعتها فى اختيار أعمال لا تتوافر فيها معايير الكتابة بذريعة الذائقة الشخصية فى تلقى الأعمال.
وتهمل التراث النقدى فى تمييز الأعمال الجيدة عن الرديئة. وأريد التأكيد على أن الأعمال المميزة لا تكتب لتنزع الجوائز، إنما الجوائز تسعى إليها، ويلزم الا تستجيب الأعمال التى تصل إلى القوائم الطويلة لتوقعات القارئ الكسلان الذى يقرأ قبل النوم ليضاعف من نعاسه، إنما تكون أعمالا موقظة، حيّة، شبه متمنّعة عن الاختزال، ولا تستخلص من الفقرة الأولى، إنما تكون محكمة الصنع يقبع خلفها وعى دقيق بقيمتها، وبوظيفتها.
٤
وإلى ذلك أن تأخذ لجان التحكيم منذ بداية عملها بمبدأ الاستحقاق، وليس التوافق، فالتوافق نوع من الاسترضاء الرخيص، فيما الاستحاق هو إعطاء كل ذى حقّ حقه. الاستحقاق هو المعيار الذى يتحكم بظهور القوائم الطويلة، والقصيرة، والعمل الفائز.
ولتحقيق ذلك يلزم التحكيم بحسب الفئات والدرجات (أى اقتراح ثلاث فئات هى فئة الأعمال الممتازة، وفئة الأعمال الجيدة، وفئة الأعمال الضعيفة) ليتسنى معرفة الأعمال التى تحصل على أعلى الدرجات ضمن الفئة الممتازة، وأعمال الفئة الممتازة هى التى ستصل القائمة الطويلة، وأعلاها تصل إلى القائمة القصيرة، والأعلى من القصيرة هو الفائز.
وذلك فى ضوء مراعاة معايير التحكيم المتفق عليها، والالتزام بها حتى النهاية، وكلما ضاق هرم التحكيم فى المراحل الثلاث الأخيرة، أى القائمة الطويلة والقصيرة والفائزة أن تعاد قراءة الأعمال المتنافسة مرة أو مرات قبل البت بأمرها.
وذلك يحول دون التوافق بين المحكّمين على الأعمال الفائزة، فالتوافق نوع من الاسترضاء فيما بينهم، كلّ يقدم التنازل لزميله، إنما ينبغى الانصياع للأعمال المميزة التى تصدّرت عملية التحكيم فى سائر مراحلها، فتلك الأعمال هى التى تستحق الجوائز، لا الأعمال التى ترضى هذا أو ذلك من المحكمين، أو رئيس لجنة التحكيم.
ولكى يتحقق ذلك، فأشدد على المعنيين بأمر الجوائز التدقيق فى اختيار اللجان، وبخاصة رئيس اللجنة، الذى عليه أن يكون عارفا بما كلّف به، وقادرا على إدارة اللجنة طوال مدة التحكيم، التى قد تقارب سنة كاملة فى بعض الأحيان.
وأن يحول دون تفكك اللجنة، وتناحرها، وينتهى بها إلى تحقيق الغاية المرجوة منها، وذلك لعمرى عمل شاق جدا، وهو أكثر مشقة من قراءة الأعمال، والحكم عليها، وقد يفضى إلى سوء تفاهم بين المحكّمين، فتغيب عنهم الأعمال، وينشغلون بخلافاتهم الشخصية، ويهملون قيمة الأعمال التى كلّفوا بتحكيمها.
٥
وأوصى لجان التحكيم بالقراءة الموضوعية التى ترضى الضمير الثقافى، والخبرة الثقافية، فكلّ متقدّم للجوائز يفترض استحقاقه الفوز، ولا يجوز الاستهانة بأى عمل أيّا كان مستواه، وقد دأبت أنا، منذ بدايات تكليفى بالتحكيم، على تدوين ملاحظات عن كل عمل أقرؤه، وأذكر الفئة التى يستحقها، هل هى الفئة الممتازة، أم الجيدة، أم الضعيفة.
وأضعه فيها مع ذكر الدرجة التقريبية له، وعلى ذلك المنوال استمر من البداية حتى النهاية، وتلك الملاحظات على غاية من الأهمية بالنسبة للمحكّم، وعليه ألا يتكاسل عنها إن كان يقظ الضمير والمسئولية.
وعند اختيار القوائم الطويلة، فمن الطبيعى أن تحظى الأعمال التى ظفرت بالرُتب المتقدمة بالاهتمام، ويستبعد سواها، فذلك هو الاستحاق بصرف النظر عن الكاتب، وجنسه، وبلده.
٦
وقد اتّبعتُ، وأوصيتُ باتباع هذا النهج فى كل ما قمت به من تحكيم، وكلما جرى الانتقال من مرحلة إلى مرحلة يزداد الاهتمام، فأعمال القائمة الطويلة لابد أن تكون مشفوعة بملاحظات واضحة بكل عمل مع الترتيب المناسب لها.
وعند الانتقال لمرحلة القائمة القصيرة يقع توضيح أكثر، ويشفع برأى نقدى صريح بالأعمال حتى ليكاد الرأى يكون مقالة نقدية مكثفة عن كل عمل. ومن خلاصة آراء المحكمين المدوّنة التى امتثلت لهيكل التحكيم يلد العمل الفائز الذى لا فضل لهم فيه سوى أنهم فتحوا الطريق أمامه.
ولا فضل لمحكّم فى فوز عمل أدبى أو نقدى أو فكرى بالجائزة، إنما ذلك العمل هو الذى شقّ طريقه إليها. ولجنة التحكيم هى التى هيأت ظروف وصوله إلى الجائزة.
*أخبار اليوم