عباس بيضون: عود على نزار قباني… مقدّمات الحداثة

0

تمرّ مئوية نزار قباني (1923 ــ 1998) هذا العام بضجيج قليل نسبياً، ما جعل البعض يُستثارون عتباً، ويعودون إلى زمنِ قبّاني لتبيان حضوره المدوّي في الشعر العربي، والذي يظل، رغم تعاقب المراحل والأشخاص والاتجاهات، علامةً في شعرنا وتاريخنا الأدبي. علامة ليست كأيٍّ غيرها، إذ أنها مشرقة وساطعة وفائضة بالقياس إلى عصرها والعصور التي تلتها.

ثمة أسماء لامعة، لكنّ أياً منها لم يكن له سطوة القصيدة القبّانية ومكانها المفصلي في مسار القصيدة العربية ومسار الأدب العربي بجملته. لم يكن محمود درويش، على سبيل المثال، بعيداً عن هذا الصدى. والأرجح أن حقبة كاملة من الشعر العربي كانت بكلّيّتها تصيخ إليه. بل وتتأرجح بالنسبة إليه، وتدور حوله. حقبة ليست نائية، بل هي، حتى برهة قصيرة، كانت لا تزال راهنة. نحن، شئنا أو أبينا، ما نزال في عهد نزار قباني، وحريٌّ بنا أن نوالي الانتباه إلى قصيدته. حريٌّ بنا، إذا كان لنا حسٌّ بالتاريخ، أن نستحضر هذا الشعر كلّ مرة نعكف فيها على البحث في الشعر بإطلاقه، ومعالجته في تطوّره وتواليه.

لا بدّ إذ ذاك من أن نرى أن التجربة النزارية فاصلة حقّاً، بل سنرى أن هذه التجربة استطاعت أن تكون ذلك بطريقة سلسة، سلسة إلى الحد الذي معه قد تكون على شيء من الخفاء، بل تكون أقرب إلى الطبع والبداهة والتلقائية، بحيث تغدو أقرب إلى أن تكون غير ملحوظة، وكأنها من طبيعة الأشياء، ومن آلياتها، ومن عفوها. هكذا شعرَ الكلُّ بالتجربة النزارية، وكأنها حدثت في وقتها، وكأنها جاءت من داخل الشعر ومن فطرته. كأنها خطوة في مساره وصفحة عادية له.

انتبه أشخاص بالطبع إلى ما في التجربة النزارية من جدّة، لكنهم أحياناً ردّوا ذلك إلى أنفسهم، وكأن إحساسهم بالأشياء هو الذي يصنعها. كأن الذي تطوّرَ هُم، وكأن هذا التطور الجلي كان من قراءتهم. هم الذين تطوّروا، والزمن هو الذي سار، وما فعله شعر نزار هو أن صاحب ذلك، واقتنصه وجاء منه. مَن أصدر هذه التجربة هي الحياة بتضاعيفها، وكذلك هؤلاء الذين منحوها ذائقتهم، وكذلك زمانهم الذي تغيّرَ بهدوء وربما بصمت، تغيّر بحكم استعداده لذلك، بحكم طبيعته وانتقاله في الزمن.

كانت التجربة النزارية، لأسباب فيها، قريبة ممّا يجري وما يجد، إلى الحدّ الذي تبدو فيه متلاحمة معه، أو إلى الحد الذي فيه تبدو من صنعه. إلى الحد الذي يقارب الفطرة، ويناسب الأصل، ويجري مجرى النفس، ويبدو هو السابق وهو الأساس. لم يستفزّ شعر نزار، وإنْ أدهش. لم يستفز إلّا الذين وجدوا فيه خروجاً عن العفّة، وهؤلاء قليلون، ولا يشفع لهم الشعر العربي في ماضيه، ولا تشفع لهم الحياة نفسها. لكن لم نسمع صوتاً يتّهم الشعر النزاري بالاعتداء على الشعر وبانتهاكه، كما جرى الأمر مع قصيدة التفعيلة، أو بخاصة قصيدة النثر. لم نسمع من هذه الناحية نعياً على شعر نزار قباني، واتهاماً بتجديده واعتباره مارقاً، واتهامه بانتهاك اللغة أو الخروج عن الشعر.

ذلك لا يرجع إلى ما كانه شعر نزار قباني، الذي لا نشك لحظة في أنه ابن وقته، وأنه صدى عصره، وأنه، على نحو ما، رؤية تواكب الزمن والواقع. بل هو على درجة من مقاربتهما، درجة من الاتصال والانعكاس، بحيث لا نستطيع معهما أن نفرّق بينه وبين الحياة التي يواجهها. لا نستطيع أن نفرّق بين هذا الشعر وبين الحياة التي تتبدّل، فهو صوت هذا التبدُّل، صوته وصداه ومرآته إلى درجة من المطابقة والتلاحم، لا نقدر معهما بسهولة على أن نميّز بينه وبين زمانه.

يمكننا هنا أن نتحدث عن حقبة كولونيالية أو ما بعد كولونيالية. أن نتحدث عن نشوء البرجوازية السورية، بما يعنيه ذلك من الاختلاف في الحياة ومباذلها وأدواتها، وبالتالي لُغتها، واستتباعاً لذلك ثقافتها وكلامها. شعر نزار قباني، إذا أردنا التعبير عنه بلغة اصطلاحية، هو هذا الصدى الأدبي والتمثل اللغوي لهذه الحياة المستجدة. لا نجد ذلك فقط في الأشياء التي تعمر فيها قصيدة نزار قباني، وهي من تفاصيل وأغراض هذه الحياة، لكننا نجده بالدرجة نفسها في اللغة التي تهجر الوعورة الفصيحة، وتستبدلها بالموسيقى التي تتردد، في القصيدة، كأغنية للزمن، أغنية للواقع. أغنية كلامها لم يُقم من الحب موضوعاً أول، وربما دائماً، إلّا لأنه في صميم هذه الحياة. إنه نشيدها، بقدر ما هو اعتدادها وتصريحها وموسيقاها.

قصيدة نزار قباني، التي تشبه، ولو من بعيد، السرد والاعتراف والمديح لليومي، بل واليوميات نفسها، هي نوع من المباهاة بهذه الحياة، والثناء عليها، والتصريح بها إلى حد تفصيلها وتعدادها؛ هذه القصيدة كانت مفصلاً حقيقياً في القصيدة العربية، بل إن ما نعتبره الحداثة الشعرية بُني عليها. لقد أنتجت هذه القصيدة لغةً نستطيع القول إنها لغة أُخرى، بل اللغة المعاصرة. بعدها لن يعود الشعر إلى الفصاحة الموروثة، وسينطلق منها إلى الحاضر.

(العربي الجديد)