بدأت الكاتبة السورية بشرى البشوات حياتها الأدبية مع كتابة القصة القصيرة منذ عام 2005، وفي الوقت الذي كان منتظرًا منها فيه إصدار مجموعتها القصصية الأولى غابت بشرى عن الساحة بسبب الأحداث المتلاحقة بعد اندلاع الثورة السورية ضد النظام السوري في منتصف مارس/آذار 2011، وبسبب خروجها من البلاد إلى ألمانيا.
وفي ألمانيا كان لا بد لها أن تُرتّب حياتها وحياة عائلتها، زوجها وطفليها، في تلك البلاد الباردة والبعيدة. وبدل أن تصدر مجموعتها القصصية الأولى، تأخرت حتى نهاية عام 2022 وأصدرت مجموعة شعرية عن دار نينوى، حملت عنوان “طفلة لوثت فستانها”، وهي مجموعتها الشعرية الأولى.
أبواب وأشخاص
تدور قصائد هذه المجموعة في حيز ضيق، توسّعه بشرى البشوات بكثير من الصور والإحالات التي تأخذ نصوصها إلى أماكن وأزمنة متسعة باستمرار.
قسمت بشرى البشوات كتابها هذا إلى 5 أقسام: باب الأم، باب البيت، باب الأسماء، باب الأصوات، باب الخيبة، وعكست جزءا من ذلك في الإهداء الذي جاء فيه “إلى أبي، أمي، شقيقاتي، والزين والطل (ولديها)، دون تفاصيل تُشتت الانتباه عنهم”.
صنعة بشرى في كتابة القصة القصيرة بدت مؤثرة على كتابة قصيدة النثر لديها في هذه المجموعة، خاصة أن حدود قصيدة النثر تبدو مفتوحة لتقنيات القصة القصيرة والدراما التي تدور ضمن روحها.
عتبات
في “باب الأم”، وإن كانت فتحته بتعريف القارئ على أمها، لا تكتب بشرى البشوات عن أمها فقط، بل تدخل هي نفسها وشقيقاتها وبقية النسوة في هذا الباب ويتحولن إلى أمهات:
أنا لا أكذب
فقد أخبرتُكم قبل الآن
أن أمي هي بائعة الحليب تحت السوق المسقوف
لها جناحان أسودان
وعندها كلبٌ يقضي يومَهُ لاعقًا وقتَه
أمي تُربّي تابوتًا في ظلها
تغشّ الناس
تكيلُ بمكيالين
وتضيفُ كلّ نهار خيبةً إلى مكيالها
فبعد هذا التعريف/المدخل إلى باب الأم، تتحدث الكاتبة عن مغامرتها البحرية مع ابنتها في اتجاه المنفى. ورغم أن بلل البحر يظهر في مقاطع قليلة، فإنها تبدو مكثّفة وموزعة على باقي الأبواب، وعلى باقي الأسماء والأصوات، لدرجة أنها تنجو بينما يواصل الآخرون الغرق على يابسة الأرض المنكوبة.
ولكنها تعود إلى الأم في نهاية هذا الباب الذي حوى 9 نصوص:
عاشت أمي
نخلة طويلة
ونحن بناتُها نرميها بالحجارة
ليسّاقط ثمرها
في “باب البيت” تكرر بشرى افتتاحيتها من خلال وصف البيت والأشجار والجدران والأشخاص الذين سكنوه وهجروه أو مروا به، من خلال نص أطول عن وصف الأم، بيت يمكن وصفه هكذا في النهاية:
في البيت
درج حجريّ لا قيمة له
سوى الصعود
الصعود إلى الغياب
وتنتقل إلى الحديث عن الأب، من خلال نص طويل أيضًا، ولكنها سرعان ما تكتب عن نفسها ضمن ذلك البيت المهجور، والأب الغائب منذ زمن طويل.
المنفى والفراق
هل المنفى يجعل الذاكرة هكذا حيّة وحارة، وكأن أحدنا لم يغادر المكان؟ هل الكتابة تعني العودة إلى المكان؟ هذه التساؤلات صنعتها نصوص بشرى البشوات، وهي ترى أن المنفى “يفتح في قلوبنا كوّة، تأخذ فيما بعد بالاتساع”.
كما قالت للجزيرة نت إن التغيير يبدأ واضحا “ليس فقط مع الانتقال الفيزيائي” وإنما أيضا “مع الانفصال العاطفي”، لذلك “تميل اللغة أكثر إلى العذوبة، بمعنى أنها تَشفّ كثيرا؛ تَرق وقد تنكسر”.
بهذا المعنى تجد بشرى أن هذا الانتقال يمنح المرء فرصة جيدة للتأمل، والخروج من العادي واليومي الذي كان فيما مضى، وفي أثناء السعي للتوازن “تسقط منا أشياء وتعلق بنا أشياء أخرى، هذا ما حدث مع لغتي هنا”، على حد تعبيرها.
وعما إذا كان المنفى يُضيف أو يحذف مفردات من قاموسها، قالت بشرى إن لغتها “دَخَلتها طبعا مفردات جديدة، وضاقت بمفردات قديمة”، مضيفة أن “الفراق: فراق البلاد أعني، أشبه بالموت!”.
واستطردت بأنها تحسب أن هذا الفراق هو “الفراق الذي لا لقاء بعده”، وأن اللغة فقط هي من تردها إلى بلادها، لذلك تكتب بشرى البشوات في نهاية باب البيت:
أعودُ إلى البيت من الطريق المقفر ذاته
بصحبة شوكة تصعدُ من حلقي
إلى مجرى الدمع
قصائد العائلة
إلى هذه الدرجة يبدو قاموس بشرى البشوات في هذا الكتاب متعلّقًا بالبيت والعائلة، لذلك يمكن القول إنها قصائد البيت أو قصائد العائلة لامرأة تكتب في المنفى عن حياتها ضمن حيوات صارت بعيدة، وهي حيوات الأم والأب والشقيقات، وكأنها تُعيد تأليفها من جديد.
ومن جهتها، ترى بشرى أن كتابها هذا فعلا هو كتاب سيرة شخصية، وتقول “في الحقيقة أردت أن أحمل بيت أمي كله معي، لم أشأ أن تنسكب منه نقطة واحدة”. وتضيف أنها لم تفكر قط بأن تكتب سيرة البيت الذي ولدت وعاشت فيه، أو سيرة المكان الأول، كجدران البيت وأشجاره وأزهاره، ولكن فيما بعد “وجدتني أمام سيرة منقوصة، وشعرت بالتقصير بعد إنجاز الكتاب”.
وتؤكد أنها أرادت الكتابة “عن كل نسمة هواء، عن الكدمات على الروح”، وتكشف أنها “حمّالة للحزن تتقصى أثر الفرح القليل”. وعن سبب كتابة ذلك من خلال الشعر، مع أن الأقرب هو كتابة القصص أو الروايات، أجابت بشرى بأنها لطالما أحبت الحكايات، “ولو هيّئ لي في يوم من الأيام سأحكي حكاية طويلة، قد تكون رواية مثلا”.
وتعود بشرى إلى بداياتها في الكتابة قائلة إنها كانت مع كتابة القصة القصيرة، وإنها سمعت في تلك السنوات التي خلت تعليقات حول النص الذي تكتبه بأنه شديد التكثيف، وأن جُمله القصيرة المنجزة تميل إلى الشعر أكثر.
وتستطرد قائلة “مع هذا الإرث العاطفي الثقيل الذي رزح فوق قلبي في السنوات الأخيرة، كانت قصيدة النثر هي مهربي الأول من هذا الضغط. وحتى لا أتورط في حكاية طويلة، قد تكون طويلة جدا، رحت أحكي عن البيت والعائلة والأولاد والأهل في هذه النصوص”.
ولكنها تستدرك بأن كتابها لم يكن توثيقا بقدر ما هو تصويري، وأن اللحظات التي لم تقدر أن “تحنّطها وتستبقيها بالصورة شكلتها بالكلمات”.
الخاص والذاتي
تميل قصائد هذا الكتاب، الواقع في 102 صفحة، إلى الذاتية، وهي تشبه الوقوف على أطلال المكان والذكريات. قصائد لا تفقد إثارتها للقارئ، رغم ذاتيتها وخصوصيتها الشديدة، لأن بشرى اهتمت كذلك بالمزايا التي تدل على قصيدة النثر السورية إن جاز التعبير.
وكذلك لأن كثيرين، مثل بشرى، فقدوا المكان وأهله، وراحوا يتابعون حياتهم من خلال “التشبث بالماضي الذي لا يمضي”، على حد تعبير الكاتب الأميركي وليم فوكنر، أو كما تقول بشرى:
لقد رأيتُ كلّ شيء
مذ غصّت الجنازات بالمصابيح
وأشعلناها كلّها بفتيل واحد
وجلسنا على طرف الروح
نُغنّي للصدفة التي تركتنا أحياء
في باب الأصوات تكتب بشرى عن الحرب وعن الحب، عن الحب تحت ثقل الحرب، وعن ضنك الأنوثة والروائح والرسائل والانتظارات والغفران والمواعيد، وعن الكتب والقراءات. ويمكن اختصار كل ذلك بهذا المقطع:
في الطريق عربة
العربة يجرّها وقت
الوقت يلتهم المسافة
أنا تلك العربة وقلبي هو الطريق
أدوسه كلّ ليلة، أدوسه بثقل
لأن المسافة بيننا لا تنقضي
أو كما تقول في مكان آخر:
كل ما أقوله لكَ فجأة
هي حصى تفرك قلبي
نجحت بشرى البشوات في تمديد حياة “طفلة لوّثت فستانها” من خلال نصوص تبدو كأنها كُتبت دفعة واحدة، ولكن بعد زمن طويل من العيش مع مفرداتها وأجوائها، لذلك تختلف نوعا ما عن الأجواء الاعتيادية لقصائد المجموعات الشعرية الأولى.
قصائد غزيرة الصور والأزمنة والشخصيات، لأن بشرى تحاول تثبيتها بمسامير الشعر ضد النسيان، وضد الغياب المستمر.
*الجزيرة