في كتابه “كيف تُحكى حكاية” الذي يحكي فيه تعاليمه في ورشة لكتابة السيناريو، قصّ غابرييل غارسيا ماركيز (1927 – 2014) على الطلاب الدارسين لكتابة السيناريو حكاية الخادم والموت، والتي لخّصها على الشكل التالي: أرسلَ تاجر من بغداد خادمه إلى السوق ليأتيه ببعض الأشياء، ولكن الخادم عاد بعد قليل وهو شاحب الوجه ويرتعد. فسأله السيد عن حاله، فأجاب الخادم: يا سيدي لقد رأيتُ الموتَ في السوق ينظر إليّ نظرة وعيد. ورجاه الخادم أن يعطيه حصانًا لكي يهرب من الموت. فأعطاه السيد حصانًا ومالًا وطلب منه الإسراع إلى مدينة سامراء. فركبَ الخادم الحصان من فوره وهربَ إلى سامراء. وذهب السيد إلى السوق والتقى هناك بالموت. فسأل السيد الموت: لماذا كنتَ تنظرُ إلى خادمي نظرة وعيد؟
فأجابه الموت: لم تكن نظرة وعيد، وإنما نظرة استغراب؛ إذ عليّ هذه الليلة أن أقبضَ روحه في سامراء، فتعجّبتُ من وجوده هنا بعيدًا عن سامراء!
قال ماركيز لطلابه إن هذه الحكاية هي هكذا، لا يُمكن الزيادة عليها ولا النقصان منها. بمعنى أنّ هذه الكتلة من السرد والحوار هي الكتلة المناسبة لهذه القصة.
بالطبع يُمكن الزيادة على هذه الحكاية القصيرة وتحويلها إلى رواية كاملة. بمعنى أن تكون هي الحكاية المركزيّة التي من الممكن جدًا البناء عليها، وتفريع وتعليق الكثير من الحكايات منها وفيها، حتى تتحول إلى رواية ضخمة. ولكن في النهاية ستكون هذه الحكاية القصيرة، إذا انبنى العمل الطويل عليها، هي لبّ الموضوع، إذا قمنا بإعادة قصّ الزيادات التي أضفنا عليها لكي نُمدّدها بماء الوصف والاسترسال في السرد.
ماركيز روى هذه الحكاية، التي تعود للكاتب الإنكليزي الشهير سومرست موم (1874 – 1965)، والذي استوحاها بدوره من قصة وزير الملك سليمان مع الموت.
قصّ ماركيز هذه الحكاية بتصرف، أي أنها لا تُطابق تمامًا القصة التي كتبها سومرست موم، وربما الترجمات فعلت ذلك، والذي بدوره، أي موم، غيّر فيها الكثير عن الأصل العربي. ولا نعرف إذا كان الأصل العربي مستوحى من إحدى الأساطير الشعبيّة في مكان ما من الشرق أو الغرب. وقد سبق للكاتب باسم المرعبي أن ناقش أصل هذه الحكاية من خلال مقال له بعنوان “الأصل العربي لقصة “موعد في سامراء” لماركيز”، والمنشور في ضفة ثالثة بتاريخ 22 حزيران/ يونيو 2018.
ما نريد الحديث عنه هنا هو شيء آخر؛ غير أصل الحكاية وما هو المضاف إليها وما هو الناقص فيها. ولا ما هو المصدر الأصلي لهذه الحكاية. وليس كذلك “قدريّة” الأمور؛ في أن أي شخص لا يُمكن له الهروب من قدره، ولو كان “في بروج مشيّدة”.
إنما ما نريد الحديث عنه هنا هو القيمة التي تجعل السيد قادرًا على الحديث إلى الموت، وحتى مساءلة الموت عن سبب نظراته الغريبة المتوعّدة إلى خادم يملكه. بينما الخادم لا يملك هذه القيمة أو الميزة. لم يكن أمام الخادم سوى الهرب والاستنجاد بسيّده لينقذه من الموت. والسيد لا يتباطأ عن مساعدة خادمه، فيعطي خادمه حصانًا ومالًا ويُرسله سريعًا لكي لا يتأخر عن حتفه.
هذه “الطبقيّة” العنيفة التي كانت موجودة بسخاء في العصور القديمة، وما زال سوادُها يلمعُ حتى الآن في الكثير من البلدان والقوميّات والعشائر. فالهند ليست الوحيدة التي ما زال هذا النظام معمولًا به، رغم أنها الأولى التي تتبادر إلى الذهن عند الحديث عن ذلك. ولكن مثال الهند يبقى صارخًا بالفعل؛ فحتى عندما حاول الدستور، وكذلك مجموعات القوانين، أن يُزعزع هذه الطبقيّة الهرميّة والمتراكمة، فإن العرف، أو الأعراف، أعادت بناء ذلك بسهولة. ربما لا أحد يذكر طبقة المنبوذين والعمال والفقراء، أو تلك الفئات ضمن طبقتي الفارنا والجوتي، وما عادت درسًا فقط في التاريخ، ولكن الناس ما زالت تتبعها في معاملاتها الدينيّة والدنيوية لحدّ الآن.
في مجتمعاتنا كذلك تبرز هذه الطبقيّة الهنديّة ولو بشكل أبسط، والتي تعتمد على الأصل أو الجوتي في المفهوم الهندي، ومن خلالها تُحرّم الكثير من الوظائف والترفيعات وحتى الزيجات.
في أصل الحكاية تلك، الحكاية التي قصّها ماركيز على طلابه، لو أن ذلك الخادم كان يستطيع سؤال الموت، كحال سيّده، وأن يفرّ بعيدًا عن المكان الذي يتواجد فيه الموت، لا أن يلتزم السكوت غرائزيًّا ويلوذ بالفرار إلى سيّده، لكي يأخذ إذنه في النجاة بروحه. فهذا الذي نظر إليه نظرة وعيد هو الموت في النهاية، وليس شخصًا من طبقته أو من طبقة الأسياد. ولكن الخادم يعرف الأصول والأعراف وعليه أن يلتزم بها؛ في أن سيّده يملكه روحًا وجسدًا.
لو أن هذا الخادم كان من المسموح له أن يسأل الموت عن نظرة الوعيد تلك، فلربما عرف أن قبض روحه الليلة سيكون في سامراء. فهل كان سيُغيّر وجهته؟ هل كان سيُنقذ من الموت؟
ربما كذلك يتعلّق الأمر بالموت نفسه. فهو ملاك في النهاية، والأعراف الصارمة، التي كانت نتيجة مخالفتها عدّة عقوبات مختلفة؛ قد تبدأ بالسجن والجلد وقد تنتهي بالقتل. تلك الأعراف هي التي منعت الخادم من سؤال أحد ما في طبقة الملائكة.
ولكن السيّد ذهب وناقش الموت. أعطى الخادم الحصان والمال ثم خرج وذهب إلى السوق باحثًا عن الموت ليسأله. طلبَ منه جوابًا عن سبب نظرته تلك لشيء يخصّه ويملكه. وهي أعراف أيضًا بين الأشراف والأسياد في طريقة تعاملهم مع بعضهم البعض، في أجسادهم وعرضهم وأملاكهم. هل هذا يعني أن الموت، باتخاذه شكلًا بشريًا يمشي على الأرض وبين الناس، يدفع بمرتبته الملائكيّة إلى مرتبة البشر؟ وبين البشر يذهب بمرتبته إلى مرتبة الأسياد، وليس إلى مرتبة الفقراء والمحتاجين والذين يُعانون العوز، وهؤلاء بالذات كان الخدم السواد الأعظم منهم.
قد يأتي أحدنا ويقول بأنّ هذه الأعراف بين تلك الطبقات قد منعت الخادم من النجاة بنفسه، فذهب إلى حتفه بدلًا من الفرار منه. مع أن القدريّة تقول بأنّ أيام الشخص لو انتهت، أو لو اقترب وقت سقوط ورقته من الشجرة، فإن تلك الورقة عليها أن تسقط في بغداد أيضًا، وليس من الضرورة حتميّة سقوطها في سامراء. فلم يكن هناك أيّ داعٍ للرعب المتواصل الذي عاشه الخادم طوال الطريق الطويلة بين بغداد وسامراء!
كل هذا الشرح والتفسير سيُفسد هذه القصة بالتأكيد، وهذا مقصد ماركيز بأنه لا يُمكن إضافة أيّ شيء إلى هذه الحكاية أو النقصان منها. هي هكذا. هذه هي الواقعيّة السحريّة التي بدأت منذ زمن بعيد، قبل زمن غابرييل غارسيا ماركيز وقبل زمن خوان رولفو وزمن سومرست موم… بكثير.
*العربي الجديد