لطالما طرح البعض تلك المقولة التي ترى بأن المجتمعات العربية غير مهيأة للديمقراطية وحكم القانون، وأن تلك المجتمعات تؤلف دكتاتورياتها وتحرس بقاءها. وكأن المجتمعات العربية ما زالت في ذلك الزمن الذي سمح بالانتداب عليها.
وخلال اندلاع ثورات “الربيع العربي” متتالية في بعض البلدان العربية -يتساءل مراقبون- هل تغيرت النظرة الفلسفية لهذه المقولة والمجتمعات، أم أنها بقيت راسخة؟
يجد أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية فريد العليبي أن هناك انشغالا فلسفيا متزايدا بالوضع العربي خلال السنوات الأخيرة، والسبب يعود إلى الانتفاضات الشعبية المتنقلة من قطر لآخر.
ويضيف للجزيرة نت أن الفلسفة تتحرك في أتون الصراع، وهي تعيش عربيا اليوم بين الركام. وهناك فلاسفة عرب وعالميون تأملوا ذلك مثل الفرنسي آلان باديو والإيطالي طوني نيغري، فضلا عن العرب.
ماضي العرب ومستقبلهم
ورأى العليبي أنه من هنا يأتي تنوع خطاباتها، بل حتى تباينها وتناقضها حول الانتفاضات العربية. “وليس هنا مقام تفصيل القول في ذلك كله. غير أن الفلسفة عامة نقد ومساءلة وحوار، وهي تتعامل مع الأوضاع التي تجري حولها من زاوية الانخراط فيها بالتحليل والكشف عن مشكلاتها”، كما قال للجزيرة نت.
وأكمل صاحب كتاب “تونس: الانتفاضة والثورة” بأن الفلسفة تفحص المصطلحات الرائجة، مثل الربيع العربي، وتحقيب التطورات التي عرفها الفكر العربي على امتداد تاريخه، وذلك “بالعودة إلى الموروث، ورصد منزلة الفلسفة منه بخلخلته. فالوضع العربي الراهن يتحكم به أيضا وضع سابق، بما فيه مختلف أشكال الوعي التي رافقته”. وأضاف للجزيرة نت أن ماضي العرب يشد بخناق مستقبلهم، ومن هنا تأتي أهمية الالتفات ناحية إشكالية الدين والسياسة، والعلاقة مع الأمم الأخرى، وممارسة النقد السياسي بتعرية الوقائع عبر تمزيق الحجب الأيديولوجية التي تتدثر بها. “فالفلسفة تنبه إلى مخاطر تحويل الأمة العربية إلى جماعات دينية مذهبية وطائفية بما سينجم عنه تحويل التاريخ العربي الراهن إلى تاريخ مذابح”.
الفلسفة هي ابنة زمانها
أما الدكتور خلدون النبواني فيجد أنه رغم أن الفلسفة لا تعمل في الحاضر فحسب وإنما تعيد صياغة الماضي وتستشرف المستقبل، فإنها -حتى في نظرتها إلى الماضي والمستقبل- محكومة وبشكل كبير بالحاضر.
بهذا المعنى يجد النبواني، الأستاذ ضمن الكادر العلمي لمعهد العلوم التشريعية والفلسفية في جامعة السوربون في باريس، أن الفلسفة هي ابنة زمانها وخاضعة في رؤيتها لعدته النظرية ومشكلاته الطارئة.
وأضاف للجزيرة نت أن تاريخ الفلسفة يظهر لنا علاقة توتر ورفض الفلسفة لعصرها فتسعى لتجاوزه عبر نقده وفضح وجوه قصوره وانحرافاته، وتطالبه بالتصحيح والاكتمال.
ويتابع “هذا هو واقع الفلسفة الراهنة، مع ضرورة الاعتراف بأسف أن الواقع الحالي قد استطاع أن يروض السلب الفلسفي ويحتال على تمرد الفكر بجعله موظفا في ماكينته التقنية والإعلامية والمالية والسياسية الخطيرة والعملاقة والمعقدة، ولا يشهد الواقع الحالي إذن حلقة مزدهرة للفلسفة القوية وإنما حالات انقسام وتشتت فلسفي في “علوم” جزئية تطبيقية غالبا”.
ويستطرد النبواني بأن هناك فئة المستشرقين المتمكنين من اللغة العربية والمطلعين بشكل جدي على التراث العربي والإسلامي والأوضاع الاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية، والقادرين على تكوين رأي مدروس وجدي عن السؤال (وإن كان لا يخلو دائما من المواقف الإيديولوجية المتعصبة).
ويجد النبواني بالمقابل أن هناك “فئة الفلاسفة الذين تفضح آراؤهم السياسية، حين يتحدثون عن العرب، خضوعا واضحا للبروباغندا السياسية والخطاب الإعلامي السطحي”.
أما بالنسبة للمفكرين العرب، فيجدهم غير راضين بدورهم عن حاضر العرب، “لكن للأسف المشاريع الفكرية العربية للخروج من مأزق الحاضر، منذ الطهطاوي وصولا إلى الجابري، لم تكن بحجم التحديات المطروحة”.الربيع العربي
أما بالنسبة للربيع العربي فيرى النبواني، صاحب كتاب “في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها”، بأنه لا يكفي أن يعيش المثقف في بلد غربي ديمقراطي تمارس فيه الحريات، كقيم مواطنة وقيم أخلاقية، حتى يكون أخلاقيا على قدر الحدث الخطير والجذري لما يسمى بالربيع العربي.
وقال للجزيرة نت إن “الكثير من المثقفين العرب الذين يعيشون في الخارج تكشفوا عن قصور أخلاقي، وعن نزعات عبودية، وتمجيد للدكتاتوريات متأصلة في لا وعيهم وسلوكهم المكبوت الذي طفى على السطح حين حانت لحظة الحقيقة. ليس أدونيس سوى مثال بارز لهم، لكن صدقني هم كثر ونصطدم مع نماذجهم في الجامعات طلبة وأساتذة”.
من جهته يجد العليبي -الذي يؤيد استعادة العلاقات بين تونس والنظام السوري- بأن الربيع العربي “بدأ شعبيا واجتماعيا وانتهى فتنا وتدخلات خارجية، فانتشرت ظواهر مثل القتل على الهوية والفقر والأمراض والهجرة والانتحار والمخدرات والجريمة”.
الموجة الثانية من الربيع
وأضاف العليبي للجزيرة نت أن الدكتاتورية الناشئة عوضت الدكتاتورية الآفلة، وأن هناك “سعيا لتركيز الدولة الدينية الاستبدادية، في مداواة للحاضر بالماضي، بقضم بعض المكاسب الحداثية شيئا فشيئا، والرجوع إلى الماضي التليد”.
وأشار إلى أن الثقة بين الحكام والمحكومين مفقودة وأن والأزمة بملامحها المختلفة تعصف بشتى الأقطار بما يشير إلى الكارثة الزاحفة. فقد كشف الربيع العربي عن نفسه باعتباره زمهرير جهنم، وقد تنجح الموجة الثانية من الانتفاضات العربية الجارية الآن في إعادة الأمور إلى نصابها.
أما عن الثورة في بلده سوريا، فيقول النبواني “عندما اشتعلت الثورة السورية في سوريا كنت أتقافز على محطات التلفزيون. أدعو لما يدعو إليه السوريون هناك من حرية وكرامة وديمقراطية رغم كل التهديدات”.
وكان النبواني قد انتسب لفترة قصيرة للمجلس الوطني في بداياته، ثم استقال بعد أقل من ثلاثة أشهر “حين راحت تتعسكر الثورة. لكني لم أتوقف عن الدفاع عن سوريا مدنية وديمقراطية”.
الديمقراطية الاجتماعية
وبالعودة إلى مقولة أن “العالم العربي غير مهيأ للديمقراطية وحكم القانون”، وأن “المجتمعات المتخلفة تنتج بنفسها دكتاتورياتها وتمجدها”. يرى العليبي أن هذا يتوقف على الإحاطة بمفهوم الديمقراطية، فهو “حمال أوجه”.
ويفسر ذلك للجزيرة نت بأن “الوطن العربي غير مهيأ للديمقراطية الليبرالية، بل هو لا يحتاجها أصلا، فذلك الطراز من الديمقراطية هرم في أوروبا نفسها، حيث ولد لأول مرة هناك ولم تعد هناك حاجة إليه. بينما يريد الغرب الكولونيالي، بشكل خاص، للعرب الاحتفاء به وتطبيقه كما لو كان ثمرة لانتفاضاتهم”.
ويرى العليبي أن في ذلك مخاتلة، إذ أن “عرب اليوم معنيون بالديمقراطية الاجتماعية التي توفر لهم الخبز والصحة والتعليم. وهذا ما طالب به، ولا يزال، المنتفضون. ولكن العامل الخارجي لم يكن مواتيا، فقد زج باحتجاجاتهم في أتون الديمقراطية الليبرالية وحصلوا على مكاسب في مجال الحريات السياسية، بينما ظلت مطالبهم الاجتماعية معلقة”.
وحتى تلك الحريات/المكاسب، يكمل العليبي للجزيرة نت، التفت عليها أحزاب غنية مطلبها الهيمنة السياسية. “واليوم نلاحظ قرف العرب من تلك الديمقراطية، حتى إن نسبة مقاطعة الانتخابات تزداد يوما بعد يوم. كما ذابت الحدود الفاصلة بين تلك الديمقراطية والاستبداد. بل إننا نلحظ عودة الاستعباد، فالعرب الذين رأينا بعضهم يبيع الأفارقة والإيزيديين في ليبيا والعراق، على سبيل الذكر، يباعون هم بدورهم في أوربا. ومن هنا تأتي أهمية إعادة التفكير في علاقة العرب بالديمقراطية دون تأخير”.
خرافة النبالة والعبودية
لكن النبواني يرى أن تلك المقولات تحمل رؤية خطيرة وجاهلة بالتاريخ السياسي والحضاري للأمم. وإذا ما صدرت عن عربي فإنها “تفضح عقدة نقص واعتراف رسمي بالانتماء لأخلاق العبيد”.
وقال للجزيرة نت إن وصفه هذا يأتي لفضح تلك الخرافة التي ترى أن هناك شعوبا خلقت لتكون حرة ونبيلة وأخرى خلقت لتكون عبدة ومسحوقة، وإن “الديمقراطية هي ممارسة وسيرورة عمل تتحقق بالممارسة وبتصحيح الأخطاء وبالاكتمال”.
وعند سؤاله عن الآليات التي تدعم ذلك، قال النبواني “لا شك أن ذلك يحتاج إلى دولة تدعم وتدافع عن الديمقراطية في بداياتها. أو إلى مجتمع مدني يحمل قيم الديمقراطية ويدافع عنها إلى أن تصبح قادرة ببنيتها التشريعية والإدارية والأخلاقية على حماية نفسها”.
المصدر: الجزيرة
“لا يوجد سوى في أخلاق العبيد وأجندات نظم الاستبداد تلك الفكرة التي تقول إن هذا الشعب لا يمكن حكمه سوى بالبوط العسكري”. يضيف النبواني للجزيرة نت، مبررا فكرته هذه بأن هناك إرثا ثقافيا تنويريا تراكم عبر عقود، مهد لقيام الثورة ضد نظم الاستبداد وإمبراطوريات الفساد السياسي.