عبر سردية هادئة ومتأنية، تنحت الكاتبة السورية، سوزان خواتمي، أحداث وشخصيات روايتها “ربع وقت”، مشيرة في مطلعها، وعلى لسان شخصية نائلة “أن الاستعجال أخو الحماقة..”، وكأنها تلمح إلى عدم الاستعجال في سرد أحداث روايتها، وربما هذا ما جعل خواتمي تفتتحها بحادثة اعتقال الصحفية “نائلة”، لتنتقل إلى أحداث غيرها، رغم أن حدثًا كهذا عادة ما يستدعي تصاعدًا دراميًا في بنية الأحداث، ويجعلها تتمحور حوله، إلا أن خواتمي تشتغل بخلاف هذه العادة، ملتفتة إلى حياكة بنيتها السردية على نحو نوشك معها على نسيان تلك الحادثة، ونحن نغوص في ماضي الشخصيات، وما أحاط بها من مؤثرات ثقافية واجتماعية وسياسية، مع سعي الكاتبة إلى ترك مهمة تفسير وتحليل هذه المؤثرات للقارئ، إلى حد أنها ورطت الراوي الذي يأتي على وصف “نائلة” بأنها شخصية تتمتع بالإرادة والعزيمة، وتحقق كل ما تعزم عليه، إلى أن يكتشف القارئ عكس ما أدلى به الراوي حول هذه الشخصية، التي بدت عديمة الإرادة، ممزقة الأهواء. ويكاد هذا الأمر يندرج على معظم الشخصيات، وكأن ثمة قوة خفية، غير منطقية، تسيرها وتتحكم بخيوط حياتها، وتسوقها إلى مصائرلا حيلة لها فيها. وإذا ما تعمقنا أكثر في عوالم الرواية، باحثين عن ماهية هذه القوة التي أتت في سياق أحداث الرواية، يتبين لنا أنها ليست إلا قوة عبثية، أوجدتها السلطة البعثية في عهدي الأسدين، الأب والابن، لتهيمن على حياة السوريين، وتعمل فتكًا في أعمارهم وأحلامهم. كان لخطاب بشار الأسد بعد أن ورث السيطرة على سورية، أثرًا مشجعًا لـ”نائلة” لإعداد تقرير مشفوع بالوثائق والأرقام، عن حالات الفساد والاختلاس التي صاحب بناء نادي الحمدانية الرياضي في مدينة حلب، لتدفع ثمن هذا التقرير مع بدء أحداث الثورة السورية.
وما يعمق من حالة الخراب، وهذه القدرية العبثية، أن المدعو “أبو خالد” ما هو إلا مهندس زراعي، وليس له أية علاقة بمهنة الصحافة. لكن تم تعيينه مديرًا للمجلة التي تعمل فيها نائلة، لا لشيء، إلا لكونه يجيد كتابة التقارير، فأصبحت المجلة أشبه ما تكون بمقهى شعبي.
وفي السياق نفسه، يباغتنا “أبو زكور” العامل بصفة “مستخدم” في المجلة بمدى النفوذ الذي يتمتع به. ولا يختلف الحال مع “نادر”، الموظف الآخر في المجلة، الذي يأتي اسمه أولًا في جدول قائمة صرف الرواتب الشهرية، رغم عدم التزامه بالدوام، لكونه منشغلًا بإدارة فرن لصناعة المعجنات.
وإن كان عنوان الرواية يشير إلى مدلول “الربع”، إشارة إلى الزمن، فإن هذا يمكن أن ينطبق كذلك على الشخصيات وأحلامها وتجاربها، فهي ربعية في يقينها، وإرادتها، وحتى في تكوينها النفسي، إذ بدت وكأنها أنصاف بشر، يتحركون على الأرض بعماء مطلق، فما من حلم واحد تحقق لأي منهم، وما من طموح يؤازرهم، وجلهم لا يعلم طريقًا يمضي إليه. وحتى إذا أتيحت لهم فرص ضئيلة للخيار، ستكون خيارات ناقصة، لا يحصد صاحبها إلا الندامة، فكل العوالم هنا ربعية. ومع أن الربع أمر خانق، فقد بدا وكأنه قانون كوني مفروض على أناس عاشوا ربع حياة، وربع سعادة، وربع خلاص، وهذا الربع يعمل نخرًا في كيان الإنسان السوري، جالبًا إليه الشقاء والندم والحرمان، فها هي “نائلة”، حتى بعد مرور سنوات عديدة على علاقتها مع “علي”، تلك العلاقة التي لم تدم إلا لزمن قصير “ربعي”، ولم تحقق لها إلا قسطًا ضئيلًا من السعادة، تفتح في أعماقها جرح الندم على قرار هجرها له. وفي وقت بلغت فيه الأربعين من عمرها، وصار لديها زوج وابنة، لا تكاد تتوقف عن مراسلته عبر الإيميل، معبرة عن حالة الندم والحرمان جراء غيابه عن حياتها، غير أن كل هذه الرسائل تبقى من طرف واحد، وما من رد عليها،
وكذلك حال زوجها السابق “بكر”، فهو لا يجيد في حياته إلا الندم، لتخليه عنها في يوم ما، فتعتصره آلام الاشتياق إليها، في حين أن زوجته الحالية تتحول إلى خادمة في البيت، عساها تكسب رضاه، وتنال محبته، لكن أيضًا من دون جدوى. وحال الموظفة “هيفاء”، التي تعمل في مكتب المحامي “سليم”، زوج “نائلة”، لا يختلف عن ذلك، حين نراها تتحرك وتلبي طلباته، وكأنها دمية مستباحة، كيانًا وجسدًا، من دون أن تصدر عنها أي إشارة رفض، أو تمنع، ورغم أن “سليم” يتحكم بحياة الموظفة “هيفاء”، غير أنه هو أيضًا عديم الفاعلية والإرادة، فقد حملت “نائلة” في رحمها جنينًا قبل شهر من اعتقالها، ما جعله يشعر بنشوة الفرح، لكونه لم يسبق له أن ذاق طعم الأبوة، لكن سرعان ما تنقلب فرحته إلى لعنة، حين تتخذ “نائلة” قرار الإجهاض، قبل اعتقالها بفترة وجيزة، ورغم جميع محاولاته لتحريرها من المعتقل، خوفًا على حياة الجنين، ورغم استعانته بمعظم معارفه، من تجار وضباط، لا يفلح في تحقيق أية نتائج، في حين يتصدى لهذه المهمة المدعو “أبو زكور”، وعن طريقه يتم إطلاق سراحها مقابل مبلغ مالي كبير.
وحال الشاب “خليل”، الذي أوشكت “جوانا”، ابنة “نائلة”، أن تتعلق به عاطفيًا، بعد أن حرك في أعماقها أحاسيس جديدة، لا تختلف عن حال الجيل الذي سبقه، فهو و”جوانا”، بدورهما، يخضعان لقانون “الربع”، حتى إذا ما شارك “خليل” في فرحة المظاهرات الأولى، سرعان ما يساق إلى مصير مجهول. وأكثر ما يتضح هذا التمزق والاغتراب عن الذات والآخرين، يتبدى في شخصية “جوانا”، ابنة “نائلة” من زوجها السابق “بكر”، فهي نزقة عصبية، وكارهة لمعنى وجودها، وإن كانت أصغرهم عمرًا، تبدو وكأنها مرآة تنعكس عليها سنين أعمارهم، وما سوف تؤول إليه مصائرهم.
حتى فضاءات الأمكنة في الرواية كانت تشي برحلة الخراب، فالأرصفة تشغلها “بسطات” تباع فيها زهور صناعية قبيحة، وشموع ذائبة في أكياسها، وقطع ثياب نسائية فاقعة الألوان، كلها إكسسوارات مستهلكة ورخيصة. يضاف إلى ذلك أبواق السيارات وسط الازدحام المروري، وتبادل الصراخ بين السائقين وشرطي المرور.. ما يحيلنا إلى الخواء والاغتراب الذي يطبق بفكيه على حياة شخصيات الرواية، من دون أن ننسى “البلاطة” التي أقلقت راحة “نائلة” يوم دخولها الأول إلى المجلة، إلى أن تتعثر بها قبل اعتقالها بأيام، ما يؤدي إلى عطب في ساقها، وكأن الزمن يمسك بالمكان، وكلاهما أبديان لا يتحركان.
ورغم أن معظم المؤشرات تشي منذ البداية بالمصائر التي ستساق إليها شخصيات الرواية، إلا أن خواتمي تحرص على بناء فضاء وأحداث وشخصيات روايتها، قطعة إثر قطعة أمام أبصارنا، لتورطنا في رؤية ذواتنا عبر مرآة روايتها. وعندما يتم إطلاق سراح “نائلة” من المعتقل بعد أشهر من اعتقالها، تكون قد فقدت الجنين من رحمها، ولكن ليس نتيجة قرارها بالإجهاض، إنما نتيجة التعذيب الذي تعرضت له في المعتقل، وتفقد جراء ذلك الإحساس بجدوى الكتابة، وبجدوى الصحة والرشاقة والجمال، حين أرادت أن تضحي بجنينها حفاظًا عليهم في يوم ما.
*العربي الجديد/ ضفة ثالثة
*الرواية صادرة عن دار ميم في الجزائر 2020