د. موسى الحالول، أكاديمي ومترجم سوري من محافظة الرقة
أوراق 19- 20
الرقة
منذ مغادرتي الأخيرة للبلاد قبل عشر سنوات، تعتادني أحلامٌ تتشابه في مضمونها وتختلف في تفاصيلها. في كل حلم، كنت أجد نفسي فجأةً في سوريا، لا أعرف كيف هبطتُ إليها: أمِنَ الجو أم من البحر أم من البر؟ أحياناً أجد نفسي ذاهباً إلى بيت أهلي في ريف الرقة الشرقي، وأحياناً لا أرى نفسي إلا مغادراً نقطةً ما في سوريا، إما قاصداً مطارَ حلب وإما مطارَ دمشق. وفي كل مرة كنت أتساءل بذعر شديد: كيف تسللتُ إلى وطني كاللص ولم ينتبه إلى دخولي حُماةُ الديار؟
هل سيعتقلونني في المطار بتهمة الدخول إلى البلاد بصورة غير شرعية أم سأتسلل منها كاللِّص كما دخلتُها؟ وفي كل مرة، كنت أستيقظ بعد هذه التساؤلات المرعبة، فتضع اليقظة حدًّا لأحلامي المخيفة.
في حلمي الأخير، وجدتُ نفسي متّجهاً إلى مطار حلب مع مجموعة من المسافرين (وهو المطار الذي غادرتُ منه البلادَ آخرَ مرةٍ في الحقيقة). كان الخوف والترقب يخيمان على الوجوه التي خدَّدتها الحياة في حضن الوطن. وصلنا إلى صالة المغادرين – وهذه أولُ مرةٍ أبلغها من بين كل كوابيسي السابقة. لم نكن نحمل جوازاتِ سفرٍ، كعادة المسافرين، بل بطاقاتٍ ذكيةً. مرَّرها الموظفُ على جهازٍ عنده واتجهنا إلى البوابة المؤدية إلى الطائرة. لكن قبل أن نصلَ إليها استقبلتنا مجموعةٌ من الجنود المسلحين الذين اقتادونا إلى صالةٍ جانبيةٍ. قالوا لنا، “تفضلوا، مارسوا حقَّكم الدستوريَ في انتخابِ رئيسٍ للجمهوريةِ لعام 2028، ثم مع السلامة”.
لفتت انتباهي كثرةُ صورِ المرشحين، لكني لم أعرف منهم إلا اثنين. كانت الكهرباءُ مقطوعةً، والرؤيةُ محدودةً. رأيتُ في شِبْه الظلامِ صناديقَ بأحجامٍ متفاوتةٍ، وكانت أكبرَ من صناديق الاقتراع التي نراها على شاشات التلفاز في بقية العالم. كان كلُّ واحدٍ منها موصولًا بفيش كهربائي في الجدار فوق الصندوق، كما يتصل بخرطومين يتدليان من حنفيتين بارزتين أيضاً من الجدار. كنت أنتظر دوري لأمارس حقي، ونفسي تُسَوِّل لي أن أنتخب رجلاً – أحد الاثنين اللذين عرفتُ صورتَيْهِما – كنت قد سمعتُه في مقطع ڤيديو يخاطب جمهورَه ذاتَ يومٍ بكل شفافيةٍ وصراحةٍ تليقان بمرشح رئاسي عربي، “أنا رئيسُ سوريا القادم غصبًا عن شواربكم!”
مارس المسافرون الذين أمامي حقهم بكل حرية وديمقراطية في ظل البنادق، ثم غادروا إلى الطائرة. لم يبق أمامي إلا سيدةٌ مُسِنَّةٌ. فجأةً رأيتها تندفع نحو أحد “صناديق الاقتراع” وهي تصرخ، “هذه غَسّالتي التي عفَّشتموها، يا أولاد الحرام!” لقَّم حماةُ الديارِ بَواريدهم وسدَّدُوها نحوها. قفزتُ لأنبطحَ على الأرض لعلّي أحتمي بها من وابلِ الرصاصِ. هبطتُ بلمحِ البرقِ – على جانب السرير.
أفقتُ فوجدتُ زوجتي واقفةً تضحكُ من قفزتي وهي تحمل صينيةً فيها فنجانان من القهوة التي اعتدنا تناولها معاً عصرَ كلِّ يومٍ.