هيڤي قجو Hêvî Qiço
قاصة وكاتبة كردية سورية
مجلة أوراق العدد 12
قصص
1ــ هذه أنا…!
كان عليها أن تحسم الأمر، إما أن ترضخ لرغبات جلاديها وتمسي عيونهم وآذانهم خارجاً وتنال حريتها، أو أن تستباح من جميعهم، وتكون وليمةً دسمة، ولاحقاً تصبح الرقم الذي يكمل الثمانية آلاف آهة المعذبين.
أمرٌ جعلها تقع بين نارين أحلاهما مر، في تلك الزنزانة المنفردة والتي تهيأ لها أنه قبر سيلتهم جسدها الغض ولن تخرج منه، كان القرار صعباً وجريئاً، حين خلعت كل ما ترتديه ونادت بأعلى صوتها:
هذه أنا يا زناة الأرض، تفضلوا، لكم أن تنالوا من جسدي، كنت حرةً وسأموت حرة.
وتكالب عليها الرهط الدنيء وما نالوا سوى مرارة قسوتهم.
2ـــ حين كنت صغيرة!
أذكر حين كنت صغيرةً جداً، وقتها كنت حبة فحسب، حملني قرويٌ بسيط، مع مجموعة كبيرة من شبيهاتي، إلى أرض قاحلةٍ مقفرة، خبأني فيها.
كان يهتم بي كثيراً، يسقيني، يطعمني ويظل يطل عليّ باستمرار.
كبرت شيئاً فشيئاً، فقررت أن أكافئه برغيف حبٍ.
لم أكن أعلم أنّ أحدهم، يتربص بهذا القروي الطيب، رأيته يسرق من تنوره النار، وأضرمها فيّ.
3ــ رصاصات…
كان يوّزع فرحاً وحبّاً أنّى ذهب، يطرق أبواباً قتلتها الرصاصات اللعينة، يضعُ أملاً منسوجاً بالإرادة والشموخ على عتباتها، ويحرس أحلامها الصغيرة.
مؤخراً أمسى آخر وكأن أحدهم قتل الحبَّ فيه…!
وألبسه شراً وسواداً قاتماً، حتى بات يفتش عن آنيةٍ كي يكوّم فيها شروره، وعن سجادةٍ كي يصلي عليها لإله يصفّق له.
4ـــ شمس هائجة
في الفسحة الأمامية لبيت الرب يتكئ على الدرج المؤدي إلى الناقوس، ينتظر لعله يحظى برؤيته، فبعض الأمور باتت شائكة، ولم تعد تحتمل. ولا بد من إيجاد مخرجٍ بعد مشاورة الرب بها، الشمس هائجةٌ هذا النهار وربما الرب، فحتى الآن مازالت كل الملائكة متواجدة في جناحه العلوي.
أخذ يتمتم: لا أظنك ستفعل شيئاً! النائمون لا يعول عليهم.
5ـــ عواء….!!!
كان الوطن بيتنا الدافئ – بغضِّ النظر عن أيّ شيء آخرـ قالتها بكلّ براءةٍ وهي تسردُ لي وجعَهَا، حين جمعنا بيتٌ صغيرٌ في قريةٍ حدودية.
أما الآن فلا يُعرف لنا مصيرٌ: والدي مُزِّقَ بأنياب تماسيح “الله أكبر” وأخي قُبِضَ عليه وأُخذ إلى الجيش عنوةً… وهكذا والدتي وأنا بقينا على قارعة الجوع تفتك بنا أيام سوداء… هربنا إلى ما بعد الحدود أملاً بالنَّجاة، لكن منذ وصولنا أُصيبت أمي بسرطان الثدي، تصوري!! كيف لنا أن نتدبّر أمر الدواء والأطباء؟
سأنزل إلى الشارع لأعمل، كان لعاب الكثيرين يسيل لرؤيتي، كنت أتمنى أن أحصل على مخبأ لأخفي جسدي الغضّ والمثير عن أعينهم الجائعة، لكنني ــ مثل الكثيرات من بنات بلدي ــ سأنزلقُ من حيث لا أدري إلى ذلك الفخ، فقد رسمت لي تلك “السيدة القبيحة” عالماً لازوردياً: نقوداً كثيرةً، ملابسَ فاخرة، سلاسل ذهب، هدايا… أحلم بأنني سأنقذ أمي من سكاكين الألم التي تمزّقَ صدرَهَا… لكنني الآن أعوي وحيدةً ككلبة في الجهات كافة…!
6ــ رزان!!
تلوذ الأم بنفسها وتتنهّد:
حين انزلقت إلى الحياة، لم تصرخ ككل الأطفال، بل بقيت هادئةً بوجها السمح، أسميتُها رزان، كانت كحمامة تجذب العشاق لهديلها العذب، وتتألق كنرجسة في نور الصباح، لم تكن تدري أنّ نهايتها ستكون في مكان مجهول برهط قميء من حراس الدين. الآن يتناهى إلى سمعي أصوات أمهات ينادين صغيراتهن باسم “رزان”؛ اسم حبيبتي الذي يتموج كالحرير أمام عينيّ. أسمع ضحكات هاته الصغيرات – كما لو أنها بلسم – تداوي جرحي؛ فيستكين.
اسم صغيرتي يضيءُ عتمةَ الليالي المحدقة بروحي!
7ــ دمعتان
الطفلتان تتمازحان بشيء من الخجل، صدى ضحكاتهما موسيقى عذبة تُدفئ تلك الرتابة الباردة في الغرفة، في الحقيقة لا تحتوي الغرفة إلا على سجادة بالية وبضع مخداتٍ ملونة، يبدو أنّ أحدهم أو إحداهـنّ تبرّعَـ/ـت بها.
بحزن كفكفت الأم دموعها وأردفت: اجتثَّ حادثُ سيارةٍ أبيهما منذ شهور، دون أن يترك لنا مصدر رزق في هذه المحنة، والآن نادراً ما يخبط على بابي أحدهم؛ ليفرّج بعض همّي، لكن لا يكاد يسدُّ رمق يوم واحد وأظلّ أياماً جاهدةً أبُعد عنهما العوز. كأن سكاكين مثلومةٌ كانت تمزّق أحشائي وأنا أستمع إليها.
اضطررتُ بعد إصرارهَا للبقاء لشرب الشَّاي، تفاجأتُ بأصابعها كعيدان حطب سوداء وهي تُعِدُّهُ على الـ”بابور”. حاولت بصعوبة أن أواري دموعي، شربت الشَّاي على عجل وودعتها، ما أنْ خرجتُ حتى تحولت الطفلتان إلى فراشتين تحوِّمان على كتفي في ضوء الشمس ثم حطتا دمعتين على يديَّ…!
8ــ كمشةٌ من الرُّوح
الرجل العجوز اتكأ على عكازته وقدماه تغوصان في أوحال المخيم، استرق النظر بعيداً نحو الأفق باتجاه عفرين، إذ بدت حقول أشجار الزيتون بتيجانها تلمع فيما تبقّى من ضوء الشَّمس، أصاخ السمع إليها؛ كما لو كان يسمع آهات تلك الأشجار ونداءاتها…؟
في هذه الرمقةِ من النَّظر تذكر شريط عمره مع حقل الزيتون، حيث كلُّ شجرة فيه تحمل كمشةً من روحه، تذكّر كرم تلك الأشجار وخيراتها وظلالها. لبرهةٍ أغمض عينيه على دموع مقهورة والتفت خلفَهُ حيث الخيام المتلاصقة تنتصب في العراء، شاهدة على صفقات الذل والخنوع، سحب دخان سيجارته بنفسٍ عميقٍ، وهجس لنفسه:
“إخوتنا المرتزقة” في (ما يُسمّى) الوطن لم يكونوا أكثر من أبي رغال…!!
9- سماء
لم تكترث لصيحات “الله أكبر” وهم يتراقصون كالقرود حولها، بقيت شامخة حتى آخر شهقة في روحها، أسلمتها وهي تبتسم متطلعة إلى سماء خالية من السواد.
10- أيها الموت!!!
حين قتلوا شريكَ عمرَكِ غدراً صُدمتِ وجرفك صمتٌ أسود…!
لكنَّ صدمةَ أخرى فاجأتكِ بذكريات الأمس الأليمة حين رأيتِ قديستين كرديتين مقتولتين تحتضنان تراب الوطن حيث يركلهما مرتزقٌ ويصوّرهما آخر؛ وغدان من “أحرار الوطن”!
مابين قتل وقتل أيها الموت…!!!
11ــ حفلةُ الرَّقص الأخيرة!
الأطفالُ فَقَدُوا براءتهم، الشَّباب قُتلوا، النِّساء، والصَّبايا أمْسَيْنَ سَبايا، الوطنُ أصبحَ خَراباً ومستنقعاً لمستوطنين تدفَّقوا من فجاجِ الأرضِ القريبة والبعيدة. يالسخرية القدر! حينها، في تلك اللحظة الفارقة تفتّق َذهنُ الأطراف السياسية عن اتفاق لمناقشةِ المعضلةِ: ناقشُوا كلَّ القضايا ورفعوا أنخاب بعضهم البعض، ودخّنوا السِّيكار الفَاخر…في منتصفِ الليل اتّجه كلُّ طرفٍ إلى الفندق الخاصّ به؛ ليشاهدَ حفلةَ الرَّقص الأخيرة للرَّاقصة المعروفة م. ف…!!
12ــ عراء موحش
جدران غرفتها المغتبطة بالألوان الزاهية، أغطيتها النَّاعمة الموشاة بصور أفلام الكرتون، خزانتها الملأى بشتى الألعاب، صوت أمها الحنون وهي تقصُّ لها حكاية ما قبل النوم، ها هي “نرفين الجميلة” تغطُّ في نوم هانئٍ عميق! الصور المبهجة لاتزال تجتاح مخيلتها حين استفاقت فجأةً على قهقهة ريح شديدة وهي تعبث بالخيمة في ذلك العراء الموحش، جلست الطفلة الصغيرة بفرائص ترتعد وهي تحدق في العتمة المتراكمة حولها كوحوش مفترسة:
ماماااااا…. أين أنت؟
صرخة مدويّة فحسب …!
لكنَّ الصمتَ كان ثقيلاً …!