انقضت 26 سنة على قرار اليونسكو اعتبار 23 نيسان (أبريل) من كلّ عام يوماً عالمياً للكتاب وحقوق المؤلف، وهذا الشطر الثاني يُهمل غالباً ويُكتفى بالشطر الأوّل؛ إمّا لأسباب اختزالية عفوية تارة ومتعمدة تارة أخرى، أو لأنّ ثقافة حقوق المؤلف ليست شائعة بما يكفي في بعض المجتمعات. والاحتفاء بهذا اليوم اقترن أيضاً باختيار عاصمة للكتاب؛ بدأ التقليد سنة 2001 من مدريد، ومرّ بثلاث مدن عربية (الإسكندرية، بيروت، الشارقة)، وهو هذا العام يستقرّ في العاصمة الجورجية تبليسي.
وعلى أهمية الأنشطة والفعاليات التي تُقام احتفاء بهذا اليوم، على امتداد العالم وليس في عاصمة الكتاب وحدها، يغيب بدرجة ملحوظة الاهتمام الخاصّ باثنين من أدباء العالم، هما الشاعر والمسرحي الإنكليزي وليم شكسبير (1564 -1616) ورائد تأسيس فنّ الرواية الإسباني ميغيل دي سيرفانتس (1547 -1616) رغم أنّهما، صحبة أدباء آخرين، كانا وراء اختيار هذا اليوم تحديداً: تاريخ رحيلهما، كلّ في عامه، مع إشارة إلى أنّ الإسباني توفي قبل الشاعر الإنكليزي بيوم واحد، باحتساب اختلاف التقويمين الغريغوري والجولياني. وفي سنة 2016 كانت مجلة «ماغازين ليتيرير» الأدبية الفرنسية قد دشنت العام بغلاف طريف يحمل رسماً تمثيلياً لمعركة ملاكمة بين شكسبير وسيرفانتس، في مناسبة الذكرى الـ400 لرحيلهما؛ واحتوى العدد على ملفّ غنيّ متنوّع رصد الأثر الخالد للعملاقين، الباقي والمتجدد على مرّ العصور.
وسوف يكون مفيداً تماماً، وطريفاً أيضاً، لو أنّ اليونسكو ولجان الاحتفاء باليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، كرّست أكثر من حلقة دراسية لرصد المزيد من الجوانب الخافية في شخصية العملاقين، أو التنقيب عن ميادين التقاطع والتأثر والتلاقي بينهما (يتردد أنّ أحد نصوص شكسبير الضائعة، وعنوانه «كاردينيو»، يقتبس سيرفانتس على نحو صريح). حيوي، ضمن الأنشطة ذاتها، التوقف مجدداً عند قاسم مشترك جمع بينهما، رغم التنائي وبُعد المسافة، وهو أنهما تعرّضا لجحود معاصريهما ولقيا الكثير من الإنكار والرفض والتجاهل قبيل الاعتراف بالمكانة والإقرار بالعبقرية. ليس أقلّ حيوية، وضرورة، أن تُدرس أكثر وأعمق تأثيرات شكسبير وسيرفانتس في فلسفات وآداب عصر الأنوار إجمالاً، وفي فرنسا فولتير وديدرو وماريفو خصوصاً؛ ثمّ امتداد التأثير إلى الفنون التشكيلية، من دولاكروا وفراغونار إلى بيكاسو…؛ وفي الأوبرا، لدى فيردي وريشارد شتراوس خاصة؛ فالسينما، حيث التأثير يتعدد ويتنوّع.
ذلك لا يعني، بالطبع، أنّ العالم بحاجة إلى يوم عالمي كي يتناول هذه المسائل، وأخرى سواها كثيرة، في أعمال جبابرة المسرح والرواية أمثال شكسبير وسيرفانتس؛ وهو بعض حافز هذه السطور للتوقف، هنا، عند نموذجين من أعمال الحفر التنقيبي المعمّق في إرث العملاقين. الأوّل هو كتاب «الخطأ عند شكسبير»، بتوقيع أليس ليونارد أستاذة الأدب والدراسات الثقافية في جامعة ووريك، وصدر السنة الماضية عن منشورات بالغريف/ ماكميلان؛ وينهض على المبدأ المنهجي التالي: بينما يميل المحرّر الأدبي المعاصر إلى تصحيح أخطاء الكتّاب ضمن أداء الواجب تجاه القارئ، فإنه في الآن ذاته يشارك في طمس «ثقافة الخطأ» التي كانت شائعة لدى الكتّاب قبل الطباعة الحديثة، وكانت وتظلّ ميداناً دراسياً خصباً ومتعدد الفوائد.
وإذْ تقتبس نيتشه في تصدير كتابها (مقولة الفيلسوف الألماني: «لدينا الفنّ بهدف ألا نموت من الحقيقة»)؛ فإنها تساجل بأنّ الخطأ Error ليس غلطاً Wrong بالضرورة، بل يؤكد التاريخ أنّ الخطأ كان السبيل إلى الخيّر والجميل، وأنّ الخطأ ليست في حاجة فورية إلى التصحيح. ولهذا فإنّ كتابها يتابع اشتغالات الخطأ عند شكسبير في أربعة ميادين: اللغة البلاغية (الفصل الثاني) والخطأ السياسي الذي يقترن غالباً بالمرأة (الفصل الثالث)،والخطأ حول الأجانب (الفصل الرابع) والخطأ السياقي في تناقل نصوص سابقة (الفصل الخامس).
كتاب بول مايكل جونسون «جغرافيات وجدانية: سيرفانتس، العاطفة، والبحر المتوسط الأدبي»، الذي صدر مؤخراً عن منشورات جامعة تورنتو، يسارع إلى اقتباس عبارة الباحث اليوغسلافي بريدراغ ماتفييفش: «البحر الأبيض المتوسط ليس مجرّد تاريخ، وهو ليس مجرّد جغرافيا»؛ منتقلاً بها إلى بسط الكثير، المعمق والمدهش هنا أيضاً، حول العلاقة بين هذا البحر الفريد، ونزوعات سيرفانتس الجارفة إلى التجديد والابتكار والتجاوز. وجونسون يضع نصوص سيرفانتس على معبرَين: «العالم» المتوسطي كما أسهب في مناقشته المؤرّخ الفرنسي الشهير فرناند بروديل، حيث لا يتخذ البحر صفة الحاجز والمانع بل نقطة الانطلاق أو وسيط استكشاف الفوارق؛ والمعبر الثاني هو أنّ قراءة سيرفانتس في ضوء أنساق مختلفة من العاطفة إنما تقيم صلات تعددية من «جغرافيات الوجدان»، والترحال، والتنقّل السياسي والتبدّل الفروسي…
ويسير جونسون في افتراضات مماثلة لتلك التي اعتمدها نقّاد كبار أمثال هارولد بلوم، مساجلاً بأنّ النصّ الأدبي على غرار ما كتبه سيرفانتس لا يعكس الشروط التاريخية التي وُلد في سياقاتها، فحسب؛ بل يلعب، كذلك، دوراً في استيلاد تلك السياقات أيضاً. ولهذا فإنّ أعمال سيرفانتس تشتغل في نطاقات أبعد من تلك الأدبية، لتشمل التأثير في المتخيَّل الشعبي والنفسي، وتغيّر بالتالي المشهد الثقافي على مدى بعيد.
ليونارد وجونسون نموذجان، على سبيل الاقتراح فقط، لطرائق ومنهجيات دراسية معاصرة تتيح إحقاق حقوق جبابرة من أمثال شكسبير وسيرفانتس، في مثل هذا اليوم العالمي على الأقلّ.
*القدس العربي