صبحي حديدي: مانغويل وأوروبا بوصفها استعارة

0

«فلسطين بوصفها استعارة» عبارة تُنسب إلى محمود درويش، وقد اختيرت عنواناً (بالغ الذكاء والإحاطة والصواب!) لمجموعة من الحوارات مع الشاعر، صدرت سنة 1997 بالفرنسية في باريس عن دار نشر «أكت سود»، سلسلة سندباد، بترجمة الياس صنبر؛ كما صدر الكتاب لاحقاً، سنة 2019، بترجمة إلى الإنكليزية أنجزتها أميرة الزين وكارولين فورشيه. ومؤخراً لجأ الأرجنتيني الشهير ألبرتو مانغويل إلى دلالات الاستعارة في عنونة كراس بعنوان «أوروبا: الأسطورة بوصفها استعارة»، كان محاضرته الافتتاحية للكرسي السنوي الذي تنظمه الكوليج دو فرانس في باريس، تحت مسمى «اختراع أوروبا عن طريق اللغات والثقافات».
مانغويل غنيّ عن التعريف، أغلب الظنّ، الأمر الذي لا يلغي ضرورة الإشارة الوجيزة إلى أنه مؤلف الكتاب المدهش «تاريخ القراءة»، وأعمال أخرى لا تقلّ إدهاشاً مثل «المكتبة ليلاً»، «ستيفنسون تحت أشجار النخيل»، «صحبة بورخيس»، «وداعاً همنغواي»، «قاموس الأماكن المتخيَّلة»، «بوّابات الفردوس: أنطولوجيا الرواية القصيرة الإيروتيكية»، و»مكتبة روبنسون كروزو». معظمها، إنْ لم تكن كلّها، تقتفي منهجية ذلك الكتاب الرائد، وتحاكي طرائقه البارعة التي تمزج النقد الأدبي بالتواريخ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولا تتنازل عن واجب الإمتاع، وكذلك اقتراح مقاربة تعليمية مسلّحة بأدوات تذوّق ذاتية صرفة.

وما يسعى إلى تبيانه في هذه المحاضرة/ الكرّاس يبدأ من النظر إلى الأسطورة في مكوناتها الجوهرية: أنها تنقُّل، واستعارة، وترجمة، وقول يفيد «التجوّل من موقع إلى آخر»؛ بما يعني أنّ الأساطير تتحوّل، وتتبدّل، وتتجدد كي تستجيب إلى حاجات زمن ما، ومكان ما. لكنها، مع ذلك، تُبقي على ذاتها لأنها، في يقين مانغويل، لم تُخلق على سبيل تلفيقات من جانب المخيّلة البشرية، وإنما كـ»مظاهر ملموسة لحدوسات بدئية محددة». وأمّا أوروبا الأسطورة، أي الحكاية الأمّ وأَسْطَرَتها عبر تجليات شتى في أزمنة وأمكنة مختلفة، فإنّ «حجر الأساس» فيها إنما يبدأ من شهوات جوبيتر (أو زيوس) التي دفعته إلى التخفي في هيئة ثور واختطاف الصبية أوروبا ابنة أجينور ملك الفينيقيين في صور، ونقلها إلى جزيرة كريت حيث ولدت منه ثلاثة أطفال، ساربيدون ومينوس ورهادامانت. هذا الأخير عهد إليه جوبيتر بالحكم على الأموات الآتين من آسيا؛ وأياك (الطفل الرابع حسب نسخ أخرى من الأسطورة) تولى أموات أوروبا؛ ومينوس بات في موقع أقرب إلى محكمة استئناف (يثمّنه دانتي في «الكوميديا الإلهية»).
بذلك يستخلص مانغويل أنّ المملكة التي أسستها الأميرة أوروبا مع أبنائها، ليست في نهاية المطاف سوى مركز التقاء الحضارات؛ مع اقتران هذا التشكّل بسيرورة تمدين واسعة النطاق تولاها الفينيقيون، عبر كادموس (قدموس؟) ابن الملك أجينور خلال ترحاله بحثاً عن شقيقته المخطوفة، وما حمله من علوم وفنون ومهارات كانت وراء تمدين «برابرة الشمال» حيث ميدان الإغريق الحيوي. وعلى امتداد أقسام المحاضرة/ الكراس، التي تتوقف عند موضوعات الأسطورة والمخيّلة والاستعارة والترجمة والترحال، يأخذ مانغويل قارئه في إبحار حافل وفريد عبر أعمال أدبية وفنية وفلسفية تساجل لصالح، أو تُسائل مصداقية، سلسلة معقدة من ظواهر اختراع أوروبا عبر اللغات والثقافات؛ من دون أن تغيب القراءة، ميدان مانغويل الأثير، عن عمليات التكوّن وسيرورات التشكّل.
وإذْ يتكيء على مقولة للناقد الفرنسي رولان بارت (أنّ «الأسطورة قول، وهي نظام تواصل»)، يعتبر مانغويل أنّ الأساطير ليست مرايا فقط، بل هي ردهات مرايا: «حين ندلف إليها، تصبح منظومات تفكير تتضاعف باتجاه العالم الخارجي، وأوكار استنارات تتجذّر في اللاوعي». والقراءات المتضاعفة التي يقترحها لبعض الأساطير، خاصة تلك التي تؤطّر أسطورة أوروبا المركزية على نحو خاص، تفضي إلى طراز من ينابيع مشتركة للغات وثقافات وفلسفات، تتابع مسيرات التناقل والتجوال والترجمة. وهذه واحدة من مناسبات كثيرة تتيح له أن يساجل التيارات الانعزالية أو العنصرية أو الشعبوية، التي تضع الهجرات في مسارات مناهضة لخرافات واستيهامات هي نقيض الأساطير، تتمحور حول جوهرانية هوية ما، أو حتى عرقٍ مخصص وحضارة منفردة.
وثمة الكثير من المغزى في أنّ مانغويل يعود إلى مقالة كتبها دانتي سنة 1302 خلال منفاه القسري، بعنوان «عن البلاغة في العامية»، وفيها يرى أنّ كامل المنطقة التي تمتدّ من مصبّات الدانوب وحتى الشواطئ الغربية من إنكلترا، التي ترسمها الحدود الإيطالية والفرنسية، شهدت لغة واحدة، انشطرت بعدئذ إلى لهجات السلاف والهنغار والتيوتون والساكسون والإنكليز وأمم أخرى. وهو يختم، استطراداً، بالقول: «أسطورة أوروبا بدأت من عملية اختطاف، لكنها انتهت بتأكيد، مفاده أنّ الأميرة موضوع شهوة زيوس امتلكت شهوتها الخاصة في التأسيس، وفي ترجمة السلبي إلى إيجابي». وهذا مدخل يستخلص منهجية انتقال مانغويل من سرد أسطورة إغريقية، إلى تلمّس ما تبلور خلالها من عناصر هوية أوروبية، وصولاً إلى أدوار المخيّلة (عبر الآداب والفنون، خاصة) في الارتقاء بالمزيج المركّب إلى سوية الاستعارة.
أوروبا في نظر مانغويل مفهوم غير مستقرّ، وهي ترميز جغرافي وديمغرافي وسياسي لا تكفّ أجزاؤه المكوّنة عن التبدّل: «أوروبا روما الإمبريالية ليست أوروبا دانتي، وأوروبا إرازموس وديكارت ليست أوروبا غوته؛ وكما عبّر خوليو كورتازار، مقتبساً رامبو: «كل» كاتب أوروبي هو عبد عمادته»… على تنوّع مَنْ يُعمِّد ويُعمَّد!

*القدس العربي