صبحي حديدي: قوزاق زابوروجيا بين السلطان محمد والقيصر بوتين

0

إيليا يفيموفتش ريبين (1844-1930)، الفنان الروسي الذي بات الواجب يقتضي اليوم التذكير بأنه أوكراني الأصل (على غرار الشاعرة الروسية الكبيرة أنا أخماتوفا، الأوكرانية بدورها)؛ هو الرسام الواقعي الأكثر شهرة، والأعلى كعباً أغلب الظنّ، في مشهد الفنون التشكيلية الروسية أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. له تدين الإنسانية بأعمال خالدة، بينها بورتريهات فاتنة لأمثال ليو تولستوي، ألكسندر بوشكين، مودست موسورسكي؛ وعدد من أصدق تمثيلات الفلاحين والعمال والكادحين، مثل لوحته الشهيرة «بحّارة على نهر الفولغا»؛ فضلاً عن أعمال قاسية المحتوى رهيبة الوقع، سُحب بعضها من العرض، مثل «إيفان الرهيب يذبح ابنه»، و»القديس نقولا في ليفيا»…
صحيح أنّ اجتياح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا هو الحافز الأسبق وراء استعادة ريبين في هذه السطور، من زاوية التشديد على حقّه في استرداد انتمائه الوطني الأوّل حيث مسقط رأسه؛ غير أنّ الحافز الأبرز هو لوحة ريبين الفريدة «القوزاق يسطّرون رسالة إلى السلطان التركي»، التي حملت وتواصل حمل سمات استثنائية على مستويات شتى تبدأ من فرادة فنية وتشكيلية تظل وراء طاقاتها الإيحائية الجبارة المستدامة، وفرادة في الرسائل المتعددة التي تنقلها في السياسة والثقافة والديانة والأسطورة والمقاومة، وفرادة ثالثة في تأثيراتها على مخيّلة عصور أدبية متعاقبة ومدارس وأساليب متباينة عابرة للحدود الروسية. هي لوحة تقع في 2,03 X 3,58، بالمقاييس المترية؛ وزمن إنجازها بدأ سنة 1880، وانتهى في 1891؛ ولم يتردد ألكسندر الثالث، إمبراطور روسيا وملك بولونيا ودوق فنلندا الأعظم، في دفع 35,000 روبل لشرائها مسجلاً الرقم القياسي لأغلى لوحة في زمنها؛ وهي اليوم معلّقة على أحد جدران متحف بطرسبورغ الحكومي. جذور موضوع اللوحة سوف نجدها في رواية نقولاي غوغول «تاراس بولبا»، وبالتالي سنراها أيضاً في الفيلمَيْن الروسي والأمريكي المأخوذَين عن الرواية؛ وأصداؤها سوف تتردد عند شاعر فرنسي غير منتظَر في هذا الحقل: غيوم أبوللينير !

اللوحة تصوّر نفراً من القوزاق، في حال من المرح والصخب والانتشاء والاعتداد والسُكْر، يتحلقون حول رفيق لهم يمسك بريشة ويخط على ورقة؛ ويحيل عنوان العمل إلى حكاية قوزاقية شائعة، لا يؤكدها السجلّ التاريخي ولا ينفيها تماماً، تروي أنّ ثلة من أبطال القوزاق بعثوا برسالة إنذار حافلة بالتحدي والوعد بالمقاومة إلى السلطان العثماني محمد الرابع، الذي شهد عهده توسّع السلطنة وبلوغها فيينا وبولونيا وهنغاريا وأطراف أوكرانيا. الرسالة، كما تتداولها الروايات الشعبية، طافحة بالشتائم المقذعة والألفاظ البذيئة، لكنها في المحصلة تعكس الكثير من خصال البسالة والجسارة والأنفة التي ميّزت القوزاق على مدار التاريخ؛ وهذه الروحية تحديداً هي التي منحت الحكاية، والرسالة إنْ وُجدت حقاً، جاذبية خاصة شدّت انتباه ريبين، وقبله غوغول، وبعدهما المغنّي/ الشاعر الفرنسي ليو فيريه.
وكي تتضح أكثر مكانة تلك الرسالة، خاصة في تكوّنها الأسطوري الذي خضع للكثير من التضخيم والتفخيم والتهويل، تجدر الإشارة إلى أنّ طرائق تناقلها في الأصقاع الأوروبية بدأت من الترجمة إلى الألمانية منذ سنة 1683، حيث لعبت دوراً مباشراً في رفع معنويات سكان فيينا خلال الحصار؛ كما تُرجمت إلى الإنكليزية، رغم أنّ سيف السلطنة لم يبلغ البرّ الإنكليزي. لافت، ولا يخلو من إثارة للعجب، أنّ حكاية الرسالة التي تشدّ أزر القوزاق في وجه الغزو العثماني، تُرجمت مجدداً إلى الإنكليزية بقصد إدراجها في كتاب برنارد غيرني «القارئ الروسي» الذي طُبع سنة 1947 وكان بمثابة الدليل المرشد إلى الحرب الباردة. تلك، وسواها، معلومات توفرت وانتشرت وأحاطت الرسالة بأسئلة مشروعة حول المصداقية بين ما هو موثوق ومقبول وما هو إنشاء وافتراء، غير أنّ رسالة القوزاق لم تخسر شيئاً من زخمها، بل إنّ الأحداث والوقائع والحروب اللاحقة زادت من جاذبيتها.
وفي العودة إلى ريبين، كان إغواء الرسالة أشدّ سطوة من أن يبعد الفنان الكبير عن المشروع بداعي التفريق بين الحقيقة والخرافة، لكنه في الآن ذاته لم يهبط بالعمل إلى سوية تحريضية جوفاء، واختار توثيقاً أفضل تبدّى بالفعل في دقّة الملامح على الوجوه، ولغة الأجساد المحتشدة حول كاتب الرسالة، والثياب والقبعات والأسلحة المطابقة للأصول القوزاقية. وإذْ يميل بعض ناقدي ريبين إلى إبداء تحفظ هنا أو هناك على المناخ العام في اللوحة، لجهة إظهار العربدة أو التكلّف أو الإفراط في تصوير مظاهر الانشراح والبهجة والجذل، فإنّ غالبية هؤلاء يعترفون أنه نأى بريشته عن التنميط الاستشراقي وتحقير الآخر العثماني؛ خاصة وأنّ نصّ الرسالة المتداول شعبياً، صحيحاً كان أم مزعوماً، يغمز مراراً من قناة الشرق والمشارقة.
وفي سنة 1880، وقبل أن يشرع في الرسم، زار ريبين غالبية مدن أوكرانيا من كييف إلى أوديسة، وتوقف خصيصاً في زابوروجيا ليرسم ما اعتقد أنه قبر المقاتل القوزاقي الشهير إيفان سيركو الذي سوف يحتلّ صدارة في لوحة الرسالة الشهيرة. الأقدار تشاء هذه الأيام، بعد مرور 142 سنة وتحت وابل القصف الروسي وأخطار الإشعاعات النووية، أن يجد أهل زابوروجيا أنفسهم أمام واجب تسطير رسالة مقاومة جديدة؛ ليس إلى سلطان عثماني هذه المرّة، بل إلى… القيصر بوتين!

*القدس العربي