في مطالع تسعينيات القرن المنصرم كان زكريا تامر، القاصّ السوري الكبير والرائد، قد شرّفني بطلب كتابة كلمة على الغلاف الأخير للطبعة الثالثة من مجموعته القصصية «الرعد»، التي صدرت ضمن منشورات رياض الريس في لندن يومذاك. وأستعيد، هنا، فقرات من ذلك النصّ التكريمي، الذي زادتني إبداعات تامر اللاحقة يقيناً بأنه لم ينصف القامة الكبيرة بما يكفي ويليق بفنّه الرفيع الرائي والسبّاق.
يومها اعتبرتُ أنّ تامر مختبر تعبيري فريد أدار ويدير تلك العمليات الأكثر تعقيداً وثراء في الوسيط الإشكالي النبيل الذي نسميه «نثر الحياة اليومية». وما فعله صاحب «صهيل الجواد الأبيض»، 1960، مجموعته الأولى، كان ويظلّ حالة مدهشة من التجاوز الدائم، الأقرب إلى ترقية عضوية، للنظام التجريدي الذي تميل اللغة إلى اعتماده في إنشائها للعالم ولدلالاته ومدلولاته.
ذلك النثر كان يضعنا أمام كتابة هي، في واقعها القرائي كما في أدواتها التعبيرية العاملة فوق النوع الأدبي وتحت سقوفه، عمليات قلب راديكالي للمنطق ذاته الذي يحكم اتصال وانفصال الوظيفتين الشعرية (التي تتوسل الشعر) والخطابية (ذات الصلة بمعاجم الحياة اليومية) في اللغة. وتلك سيرورات تعبيرٍ أسفرت عن كيمياء شعرية استثنائية فذة، انتزعت لنفسها حقّ استدخال الكابوس (الكوني) في الحلم (الفردي)، وحقّ مزج المعاناة الإنسانية الشاملة بأيّ مقدار من العذاب العبقري الذي يجتاح هذه النفس البشرية الفردية أو تلك.
كذلك أعربتُ، في مناسبات سبقت أو لحقت ذلك التثمين الوجيز، عن يقين ثانٍ بأنّ الثنائي، القاصّ تامر والشاعر محمد الماغوط (1934-2006)، نقلا النثر السوري إلى أطوار استثنائية من التحوّل والانقلاب الجذري؛ ليس على صعيد مختلف طرائق «شَعْرَنة» ما نُدرجه تحت تصنيف نثر الحياة اليومية (وتلك سيرورة كانت قائمة على هذا النحو أو ذاك في كلّ حال)، فحسب؛ بل كذلك في ترقية تلك الخيارات التجريبية إلى مستوى المختبر المفتوح الموضوع على محكّ القراءة، من خلال نتاج شعري وقصصي سوف يتواصل ويتنامى ويتراكم، متجاوزاً روحية التجريب العابرة.
خلال الحقبة ذاتها، وضمن سياقات متعاقبة من الصدم والمغامرة والمجازفة، لم يكن مألوفاً أن يطلق تامر عنوان «الأغنية الزرقاء الخشنة» على قصّة قصيرة لا يتجاوز حجمها ستّ صفحات من القطع المتوسط؛ تبدأ فقرتها الأولى هكذا: «نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة، حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض ناعم ضُغط ضغطاً جيداً في قالب جيد. وتعرّج النهر عبر الأزقة البيضاء وبين المنازل الطينية المكتظة بالوجوه الصفراء والأيدي الخشنة، وهناك امتزجت مياهه بالدم والدموع وبصديد جراج أبدية، وعثر النهر في ختام رحلته على نقاط مبعثرة بمهارة، مختبئة في قاع المدينة، فصبّ فيها حثالته الباقية».
لافت، إلى هذا، أنّ استقبال نثر الماغوط وتامر امتزج، في تلك الأيام، بطرازَين من ردود الأفعال: إعراض ابتدائي عماده عناصر متضاربة من الدهشة والانبهار والإعجاب والتعاطف؛ وحيرة، لدى الجمهور والنقاد في آن معاً، إزاء زخم شعري عالٍ، تحمله مدوّنة نثرية. ولقد تضافرت مجمل الاستجابات المتضاربة هذه، وتعايشت، وظلّت في حال من الشدّ والجذب رغم أنّ مناخات الحداثة والتحديث كانت متسارعة؛ وكان النصّ الأدبي العربي، شعراً ونثراً، يدخل في مطحنة لا تتوقف رحاها عن تبديل الأساليب وتحويل الأشكال.
مناسبة استعادة تامر، هنا، تعود إلى قرب صدور ترجمة إنكليزية لمجموعته القصصية «الحصرم»، التي نُشرت طبعتها الأولى مطلع العام 2000، عن رياض الريس دائماً، وضمّت 59 قصة قصيرة؛ بالأحجام المعتادة عند تامر، التي تداني القصيرة جداً والأقصوصة المتوسطة. منشورات جامعة سيراكيوز الأمريكية سوف تتولى الإصدار، والترجمة قام بها أليساندرو كولومبو وميريا كوستا كاباليرا، ومؤخراً نشر موقع ArabLit حواراً مع كولومبو أجراه طغرل مندي الباحث في الأدب العربي المقيم في برلين؛ حول جانب بالغ الأهمية، والخصوصية أيضاً، في لغة تامر أشارت السطور أعلاه إلى بعض سماته، أي الموسيقى والإيقاع.
وإلى جانب تجربة سابقة في ترجمة «تكسير ركب» إلى اللغة الساردينية، أوضح كولومبو أنّ انشداده إلى «الحصرم» ابتدأ من ملاحظة تداخل الشخصيات مع الأمكنة الدمشقية المتخيلة، لترسيخ خطّ سردي أقرب إلى صناعة رواية من مجموعة قصص قصيرة. الجانب الأكثر صعوبة، من وجهة نظر كولومبو، كان العثور على نظائر موسيقية وإيقاعية تعكس في الإنكليزية ما يفلح تامر في تسخيره بالعربية، وهذا تفصيل يحيل إلى الشعر أكثر من إحالته إلى النثر السردي. أو، في يقين هذه السطور، يعيد التشديد على علوّ كعب تامر في إطلاق نثر عالي الإيحاء وحاشد الانزياحات، لا يحاكي لغة الشعر من باب التقليد بقدر ما يجاريها في تفجير الطاقات التعبيرية والدلالية الثرّة التي يختزنها النثر؛ أو، من باب أولى، «نثر الحياة اليومية» دون سواه.
في الوسع، على نحو كهذا أو استئناساً باعتبارات فنّية ولغوية أخرى كثيرة، الحديث عن قصيدة زكريا تامر؛ أو ذلك النصّ الفاتن الذي يعجن من النثر البسيط، المركّب مع ذلك وغير التبسيطي البتة، خلائط كثيفة الإيعاز ومتعددة الإشارة ومتغايرة الإفادة، تنتهي إلى ما يحاذي الشعر من حيث الاستقبال، أو على الأقلّ يحالف شكلاً كتابياً محدداً فيه هو قصيدة النثر.
*القدس العربي