في كتابه “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968″، الذي صدر سنة 1968 (وهو، للإيضاح، غير كتابه “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة”، 1965)؛ كان الروائي والقاص والصحافي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني (1936-1972) قد اقترح على القارئ العربي نماذج من الشعر الفلسطيني خلال الحقبة المشار إليها (ضمّت حنا أبو حنا، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، فوزي الأسمر، نزيه خير، ومحمود دسوقي)؛ ونموذجاً وحيداً من الأقصوصة كما أسماها (أبو سلام، مؤلف “سداسية الأيام الستة” الذي سنعرف لاحقاً أنه ليس سوى إميل حبيبي)؛ ونموذجاً وحيداً، أيضاً، من المسرح (توفيق فياض، مؤلف مسرحية الممثل الواحد “بيت الجنون”).
وبمعزل عن إشارة كنفاني (الذي تمرّ هذه الأيام الذكرى الخمسون لاغتياله خلال عملية إرهابية نفذتها الاستخبارات الإسرائيلية في بيروت) إلى صعوبة العثور على نصوص وكتابات فلسطينية خلال الفترة المشار إليها في عنوان الكتاب؛ فإنّ من اللافت أنه أدرج 30 قصيدة لسبعة شعراء، مقابل أقصوصة واحدة ومسرحية يتيمة، رغم تلميحه في مادّة التقديم إلى وجود “عدد كبير من القصص القصيرة التي تتعامل مع مشكلات المؤسسة العائلية العربية الريفية ورفضها، أو على الوضع الاقتصادي المتردّي الذي يعيشه العربي في فلسطين المحتلة”.
لافت، كذلك، إقرار كنفاني (القاصّ والروائي في نهاية المطاف!) أنّ “هذه القصص التي تشكو في الغالب من تصدّع فنّي كبير، تشكو أيضاً من عجزها عن الوصول إلى المستوى الذي وصل إليه الشعر في فلسطين المحتلة في نطاق الربط بين الجبهات التي تتصدى لها حركة المقاومة في صيغتها الثقافية”. لافت، ثالثاً، ما يسجّله كنفاني في هامش مطوّل أسفل الحديث السابق عن مشكلات القصة الفلسطينية: “تجدر الإشارة، مبدئياً، إلى عمل أدبي اسمه “سداسية الأيام الستة” بدأ كاتب مجهول اسمه أبو سلام من الناصرة ينشره بالتسلسل في “الجديد” منذ آذار/ مارس 1968، ومما لا شك فيه أن وراء هذه السداسية التي يمكن ببساطة اعتبارها نموذجاً للقصة المقاومة موهبة ممتازة، وهي تشكل أبرز علامة في العمل النثري العربي داخل الأرض المحتلة حتى الآن”.
ذلك يتيح العودة إلى قراءة أخرى للأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة ذات خصوصية تأويلية وتثمينية كان كنفاني أحد أبرز روّادها، وأبكرهم على الأقلّ من حيث التحرير والتمثيل والتطوير. ففي مطلع ستينيات القرن المنصرم كان الوعي العربي أسير مزيج شبه صوفي من المفاهيم المطلقة التي تجرّد الصراع العربي ـ الإسرائيلي من محتواه التاريخي، وتختزله في تعبيرات رثائية من نوع “مأساة فلسطين” و”نكبة 1948″. ذلك التجريد تسبّب في تجميد الإبداع الفلسطيني عند مستويات الحنين، والرثاء، ومعاناة اللاجئين في المخيمات، فضلاً عن التناول التنميطي السطحي لدولة الاحتلال الإسرائيلي وللحركة الصهيونية إجمالاً. لكنّ كنفاني عكف، بنشاط ودأب ومنهجية عيانية، على كسر ذلك الوضع العالق، من خلال محطتين فاصلتين اثنتين على الأقل.
المحطة الأولى كانت روايته “رجال في الشمس”، 1963، التي شكّلت علامة فاصلة في الأدب القصصي الفلسطيني، وقفزة نوعية في الشكل والمحتوى؛ كما جمعت، بمهارة رفيعة، بين الهمّ القومي الوجودي والهمّ الاجتماعي السياسي عند مجموعة تمثيلية منتقاة من الفلسطينيين “الفعليين”، أي البشر العاديين غير المؤَسْطَرين. المحطة الثانية كانت دراسات كنفاني في الأدب الفلسطيني، في الكتابين المشار إليها هنا، حيث قاما في حقل الدراسة الأدبية بما قامت به “رجال في الشمس” في حقل التخييل الإبداعي: تعريف الوعي العربي العريض على أدب متميّز يكتبه فلسطينيون “عاديون”، أمثال محمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم وتوفيق زياد… في أماكن مثل حيفا ويافا وعكا والناصرة.
تشرّد كنفاني عن مسقط رأسه عكا، عام 1948 بعد قيام دولة الاحتلال، فنزحت أسرته إلى لبنان، ثم تقلّب في أكثر من مهنة، في دمشق والكويت وبيروت، وصولاً إلى الانخراط في صفوف المقاومة الفلسطينية عام 1960، كما توزعت اهتماماته بين الأدب والسياسة والصحافة. عمل محرراً أدبياً في صحيفة “الحرية”، ثم ترأس تحرير “المحرّر” عام 1963، وساهم في “الأنوار” و”الحوادث”، حتى عام 1969، حين أسّس أسبوعية “الهدف” وبقي رئيساً لتحريرها وناطقاً إعلامياً باسم “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” حتى اغتياله.
وضمن ما يشبه استكمال معادلة كنفاني، بصدد تفوّق الشعر على القصة والمسرحية، أقرّ محمود درويش: “كنّا مجموعة من شباب دون الثلاثين نفتقر إلى أدنى مقدّمات الردّ العمليّ على الهزائم التي يعاصرها وعيُنا وعارُنا. وكنّا نحاول كتابة الشعر دون أن نعي أنه شعر. كنّا نصرخ، نتوجّع، نحتجّ، فلم نملك أداة تعبير أخرى”. وهذا إلى “أن قام غسان كنفاني بعمليته الفدائية الشهيرة: الإعلان عن وجود شعر في الأرض المحتلة”، يتابع درويش، مستذكراً أنّ كشف “غطاء السرّ” حول كتّاب الأرض المحتلة العرب لم يطمس، بقدر ما استوجب، دراسة “نقيض هذه الكتابة وإحدى موادّ محاورتها: الكتابة الصهيونية، ودورها في تشكيل الوعي والكيان الصهيونيين”.
وليس عجيباً أنّ درويش تبصّر في معضلة حرف العطف، “الواو”، الذي يفصل بين مفردتَيْ “الكاتب” و”المناضل” في تعريف كنفاني؛ وتساءل: هل تستعصي العلاقة بين رجل يكتب في سياق نضاله أو لأنه يناضل، ورجل يناضل في سياق كتابته أو لأنه يكتب؟
*القدس العربي