صبحي حديدي: ثقافة فلسطين ما بعد الألفية: الأرشيف والأردواز

0

«فلسطين ما بعد الألفية: الأدب، الذاكرة، المقاومة» كتاب لافت وبالغ الفائدة صدر مؤخراً عن منشورات جامعة ليفربول؛ بتحرير راشيل غريغوري فوكس، المحاضرة في جامعة كوين ماري، لندن؛ وأحمد قبها، الأستاذ المساعد للدراسات ما بعد الاستعمارية المقارنة والأمريكية، جامعة النجاح الفلسطينية. الكتاب يقع، إلى جانب مقدّمة المحرّرَين، في 234 صفحة وعشرة فصول تتوزع على ثلاثة أقسام، عناوينها تسير هكذا: 1 – «أرشيفات فلسطينية: الكارثة، المنفى، وكتابة الحياة»؛ و2 – «جماليات فلسطينية: أيقونات، لمسيّات، وألواح أردوازية»؛ و3 – «آفاق فلسطينية: نهايات وبدايات، أو التحليق». وبذلك فإنّ الكتاب يتناول نتاجات فلسطينية متعددة الأنواع، شعرية وسردية وسيرية، تجمعها الموضوعات الفلسطينية، لجهة الإقامة والمقاومة والحياة اليومية والمنفى؛ مثلما يوحّد دراستها أنّ زمن الكتابات ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين.

ليس هنا المقام الملائم لمساجلة بعض خلاصات الكتاب الإشكالية، وهي ليست قليلة كما يتوجب القول، خاصة ذلك الميل الطاغي (ليس في هذا الكتاب فقط، بل في غالبية الدراسات التي تتناول موضوعات مماثلة) إلى تحميل النصّ الأدبي الفلسطيني أوزار الاستجابة إلى ديناميات الصراع الإجمالية، و»عملية السلام» التي لم تعد جديرة باسمها، وسجلات الحياة اليومية في ظلّ الاحتلال أسوة بالسلطات الفلسطينية في الضفة والقطاع. كذلك فإنّ النواظم الثلاثة، الأرشيفات والجماليات والآفاق، التي يقيم الكتاب ركائزه واستنتاجاته اعتماداً عليها، تبدو في بعض مساهمات الكتاب وكأنها مرجعيات راسخة مستقرة مستخلَصة في ذاتها؛ الأمر الذي يذهب بالكثير من منافع الكتاب، لصالح ارتياح أكاديمي أقرب إلى رفع العتب أحياناً!
وهذه السطور تتوقف، في المقابل وعلى نحو التخصيص، عند الدراسة التي قد تكون الأكثر تميزاً من حيث صرامة المنهج وسكينة الاستنتاج واستفزاز الأسئلة المكمّلة؛ أي مساهمة تحرير حمدي التي تستهلّ القسم الأوّل، وحملت عنوان «الأسلوب المتأخر بوصفه مقاومة في أعمال إدوارد سعيد ومحمود درويش ومريد البرغوثي». والمساهمة تستنير، غنيّ عن القول، بتنظيرات سعيد حول مفهوم الأسلوب المتأخر كما بدأت مع مساق درّسه الراحل في جامعة كولومبيا، ثم توالت شروحاته في كتابات لاحقة متفرقة، إلى أن جُمعت تحت عنوان «عن الأسلوب المتأخر: موسيقى وأدب عكس التيار»؛ صدر بالإنكليزية في سنة 2006 بعد رحيل سعيد، وعرّبها الصديق فواز طرابلسي وصدرت عن دار الآداب في سنة 2015.
وفي نموذج سعيد ترى حمدي، أستاذة أدب ما بعد الاستعمار في الجامعة المفتوحة، فرع الأردن، أنّ الإحساس بحال «انعدام الاستقرار» هو عينه تعريف المثقف الذي يعيش في منفى مادّي أو مجازي؛ وهذا ما يفسح المجال أمام أسلوب متأخر يستولد مقاومة إبداعية. وهذا مدلول كلام سعيد عن أن» «التأخرّ بالتالي نوع من المنفى المفروض ذاتياً، بعيداً عمّا هو مقبول عموماً، أو آتٍ بعده، أو باقٍ بعد انطوائه»؛ وأن ينفي المرء ذاته هكذا يتطلب وضعية وعي ترفض المهيمن وتقف على هوامش المجتمع مع المقهورين والمضطهدين. وتذكّر حمدي أنّ التأخّرية ليست مرتبطة بالحال الفكرية وحدها للمنفى المادّي أو المجازي، وهذا رأي سعيد أصلاً في نقاش أعمال هنريك إبسن؛ بل تقترن كذلك بدنوّ الموت لأسباب المرض أو الشيخوخة، حيث «التأخّر يختزن في داخله الطور الأخير من الحياة الإنسانية». ولهذا فإنّ تشخيص سرطان الدم عند سعيد ووضع القلب عند درويش كانا وراء الإيحاء بـ»خارج المكان»، 1999، عند الأوّل؛ و»جدارية»، 2000، عند الثاني: «كلا العملين يمثل تحدياً ورفضاً للاستسلام في وجه الموت، وهاتان سمتان رئيسيتان للأسلوب المتأخر»، تكتب حمدي.
مفهوم التكرار عند مريد البرغوثي، في سيرته الذاتية الثانية «ولدت هناك ولدت هنا»، 2009، التي تتكيء عليها حمدي؛ يمكّن شباب فلسطين من عيش تجربة التأخّرية المجازية، التي تتماهى مع التأخّرية الفكرية لكلّ من سعيد ودرويش والبرغوثي نفسه: «جيل ما بعد الألفية في فلسطين بلغ مرحلة التحدّي والغضب ليس بسبب تاخّرية ذات صلة بالطعن في السنّ أو الاعتلال الصحي، بل بسبب تكرار المشقة اليومية، والمعاناة والموت المتواصل في ظلّ الدولة الصهيونية». وتستذكر حمدي أعمال سعيد ودرويش والبرغوثي النقدية والشعرية والسيرية، كي تواكب تطورات القضية الفلسطينية على امتداد عقدَي القرن الحادي والعشرين، وصولاً إلى «صفقة القرن» بوصفها الطور الأحدث من سيرورة التطهير العرقي.
ليست الحال على هذا النحو من الاستطراد الآلي، في يقين هذه السطور، لأنّ المساقات الإبداعية الفلسطينية، أو أية تجارب إبداعية نظيرة في ثقافات الأمم، أشدّ تعقيداً وديناميكة من الانحصار في مفهوم الأسلوب المتأخر؛ كما استفاض سعيد في شرحه على الأقلّ، أو كما استخدمه في تطبيقات تحليلية على الأدب والموسيقى والفكر. وهذا رأي لا ينتقص من محصلة استنتاجات حمدي حول علاقة المنفى بالأسلوب المتأخر، أو بالوضعية التأخّرية ذاتها؛ إذْ يظلّ ما تقتبسه من قصيدة درويش الشهيرة «تضيق بنا الأرض» ساري المفعول بصدد الخصوصية الفلسطينية: «إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟/ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟/ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟»…
حتى إذا كان درويش قد كتب هذه القصيدة وهو في طور اصطراع الأساليب، أكثر بكثير من تأخّرية عناصرها عند مستقرّ جلي، بالمعنى الذي أوضحه سعيد.

*القدس العربي