يعدد بعض المراقبين (كيت بروكتور، في “الغارديان”، على سبيل المثال) خمسة أسباب وراء الخسارة النكراء التي مُني بها “العمال” البريطاني في الانتخابات التشريعية الاخيرة: 1) شخصية جيريمي كوربن، الذي دخل الانتخابات بمعدّل انخفاض في الشعبية العامة لم يسبقه إليه أيّ زعيم للحزب منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي؛ و2) بيان الحزب الانتخابي، الذي حمل عنوان “آن أوان التغيير” وبدا تكراراً لشعارات سابقة برهنت السنوات على خوائها من المضمون الملموس والكافي؛ و3) ستراتيجية بريكست، حيث تخبط الحزب مراراً في تبيان موقف واضح صريح، وكذلك تقديم تبرير مقنع لزعم الحزب بأنّ هيمنة حكاية الخروج من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه هي التي غطّت على برامج الحزب الاجتماعية ــ الاقتصادية بوصفها مصدر قوّته؛ و4) انهيار ما يُعرف باسم “الجدار الأحمر”، أي مناطق نفوذ “العمّال” التاريخية لدى ناخبي بلدات المناجم والفولاذ والصناعات الثقيلة، إذْ فشل الحزب في إقناع أنصاره بأنّ فرض ضريبة عالية على أصحاب الملايين والمليارات يمكن أن يحلّ المشكلات العويصة في الصحة والتعليم والخدمات والبنية التحتية؛ و5) إدارة الانتخابات، حيث استهدف “العمال” الوصول إلى أغلبية من نوع ما، فتبعثرت جهودهم وانتهى الكثير منها إلى الفشل أو الشلل.
وقد يساجل البعض بأنّ أحزاب المعارضة البريطانية، وليس “العمّال” وحده في الواقع، دُفعت إلى هذه الانتخابات مرغمة، أو سيقت إليها ضمن شرك معلن لا مناص من الوقوع فيه؛ لم يكن دهاء بوريس جونسون، رئيس الوزراء وزعيم “المحافظين”، وراء نصبه وحُسْن تنفيذه بصفة أساسية. كانت مسألة الـ”بريكست” هي محرّكه الأوّل والأكبر والأخير، بدليل أنّ شعار حملة “المحافظين” لم يذهب نحو أيّ محتوى اجتماعي أو اقتصادي أو إيديولوجي، بل اكتفى بوعد إتمام “المهمة” وإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وبهذا المعنى يمكن، على نحو أو آخر، اعتبار أسباب خسارة “العمّال” هي اعتبارات، إذا لم تكن أسباباً فعلية، مكمّلة للنجاح الساحق الذي أنجزه رجل مثل بوريس جونسون: قارب إنجاز مرغريت ثاتشر، زعيمة “المحافظين” الأبرز في النصف الثاني من القرن العشرين؛ والذي قال ذات يوم: “حظوظي في رئاسة الحكومة تداني لقاء ألفيس على سطح المريخ، أو استنساخ ذاتي في حبّة زيتون”!.
ذلك لا يبدّل الكثير في حقائق صادمة عكستها خسارة مرشح “العمّال” لصالح “المحافظين” في دوائر انتخابية ظلّ بعضها يشكّل قلب “الجدار الأحمر” منذ سنوات طويلة تمتدّ أحياناً إلى 100 سنة! هذه حال روذر فالي، جنوب يوركشير مثلاً، التي واظبت على التصويت لـ”العمّال” منذ 101 سنة؛ وفي نيوكاسل أندر ليم، منذ 1919؛ وفي دون فالي، منذ 1922؛ وفي ويكفيلد، منذ 1932… ثمة عطب بنيوي دأب على النخر في جسم “العمّال” الشعبي، التقليدي والتاريخي والوفيّ، يتجاوز بكثير إشكاليات بريكست؛ وينتهي إلى نفس المصبّات التي آلت إليها غالبية أحزاب اليسار في أوروبا، حين تخلت طواعية عن روافع كبرى في برامجها تتصل بالعدل الاجتماعي والمساواة في اقتسام الثروة وتأمين الخدمات. صحيح أنّ اليمين الأوروبي التقليدي لم يسلم من التحوّلات ذاتها، وأفضل الأمثلة خسارة “المحافظين” لكثير من مقاعدهم لصالح “العمّال” في الانتخابات السابقة؛ إلا أنّ مصائر اليسار بدت أشدّ مضاضة، وأعمق عاقبة.
وليس جديداً أنّ “العمّال” عانى، ويعاني اليوم أكثر، من سلسلة مآزق إيديولوجية أقرب إلى أزمة هوية؛ بين تراث الحزب الاجتماعي وميوله الليبرالية الوليدة، وتراكمات غياب عن السلطة دام ذات مرّة 18 سنة. والناخب البريطاني لم يكن بحاجة إلى كبير عناء لكي يدرك الفارق البرنامجي الضئيل بين “العمال الجديد”، كما أرسى دعائمه توني بلير، للتذكير؛ وبين الركائز الكبرى في الفلسفة الثاتشرية، كما يستعيدها جونسون اليوم. وفي نهاية المطاف، في غمرة هذا الاختلاط الهائل في برامج تتشابه أكثر مما تتنافر، مَنْ يكترث فعلياً بتحقّق معجزات من طراز جونسون/ حبّة الزيتون!
المصدر: القدس العربي