عندما تُساق عبارة «الشعر الفراتي»، فإنّ الأكثر شيوعاً أن يتبادر إلى الذهن محمد الفراتي (1880 ـ 1978) ابن مدينة دير الزور وشاعرها الكبير الكلاسيكي؛ الذي حدث أيضاً أنه كان فيلسوفاً ومتصوفاً ومترجماً (عن الفارسية، بصفة خاصة) ورساماً وفلكياً. وإلى هذا كلّه كان الفراتي مناضلاً كوزموبوليتياً، إذا جاز القول، ناضل في بلده سوريا ضدّ الاستعمار الفرنسي، ثمّ في مصر والعراق ضدّ الاستعمار الإنكليزي، وشارك في الثورة العربية الكبرى، وثورة سعد زغلول، ولم يتوانَ عن مؤازرة أبناء البلدان التي آوته دارساً أو لاجئاً أو منفياً، في البحرين والسعودية وإيران…
أقلّ شيوعاً، مع ذلك، أن تتردد أسماء شعراء آخرين أسهموا، بعمق وجدارة، في تأسيس حركة شعرية فراتية؛ أو تابعوا تطوير سماتها وتياراتها وأساليبها، أو اقتادوها في دروب التحديث والحداثة التي كانت وعرة غالباً. وليس بغير دلالات بالغة العمق، سياسياً وثقافياً وجمالياً، أن يتعرّض اثنان من شعراء المدينة إلى إجرام «داعش» حين احتلت المدينة وعاثت فيها قمعاً وتخريباً: الأوّل كان الفراتي نفسه، الكلاسيكي، إذْ حطّم البغاة تمثاله في المدينة؛ والثاني كان بشير العاني، الحداثي الذي يكتب التفعيلة وقصيدة النثر، وأعدمته «داعش» وابنه إياس بتهمة الردّة. وفي سبعينيات القرن الماضي كان مروان الخاطر وحسان عطوان (1946 ـ 2016) بين أبرز ممثلي قصيدة الحداثة الشابة، ضمن جيل فراتي ضمّ أيضاً عدداً من شعراء مدينة الرقّة، كان إبراهيم الجرادي (1951 ـ 2018) وإبراهيم الخليل في طليعتهم. ولقد تميّز الخاطر وعطوان بحسّ غنائي لافت، واستلهام حارّ للمعطيات التراثية، وتمثّل بدوي للرموز والأساطير على نحو يحاكي صوت بدر شاكر السياب تارة أو صلاح عبد الصبور تارة أخرى، ويتناغم مع أمثال علي الجندي وممدوح عدوان وعلي كنعان.
ولعلّ فواز قادري في عداد الشعراء الفراتيين الأكثر حضوراً وغزارة إنتاج في الحقبة الراهنة، رغم إقامته في منفاه الألماني، فمنذ مجموعته الأولى «وعول الدم» أصدر عشر مجموعات سكنتها مجازات المدينة الرمزية والأسطورية والبصرية، ونهرها على وجه أخصّ بالطبع. أسماء أخرى، بصرف النظر عن الموضوعات والأشكال الشعرية والأجيال، تضمّ أسماء مثل تميم صائب، أحمد حسين الموح، فاضل وهشام ودرغام سفان، محمد الغدير، جمال علوش، فاروق الحميد، سميرة بدران، ماجد الراوي، إبراهيم اللجي، محمد عبد الحدو، سارية مرزوك، محمد خالد الشاكر، تروندا منديل، وآخرين.
ثمة، في قلب هذا الحراك الشعري الذي يراكم جماليات متفردة على أصعدة البيئة الفراتية واللغة الملقّحة حكماً بمناخات ديرية محلية، طراز خاصّ من الكتابة الشعرية هو القصيدة المحكية، الغنائية غالباً، لاعتبارات ثقافية واجتماعية شتى؛ ولكن تلك التي تدير ثورة داخل الثورة الشعرية إذا جاز التعبير: إنها، عند كبار محترفيها من الشعراء على الأقلّ، مطالَبة بأن تستخدم اللغة المحكية الديرية الخالصة، بمعنى أن تتميز عن المحكيات العراقية المختلفة التي هيمنت على المنطقة لأسباب جغرافية وتاريخية وعشائرية وديموغرافية عديدة. صحيح أنّ التجاور جعل المحكيات تتقارب وتتقاطع وتتبادل التأثير، ولكنّ الفراتيين على الضفة السورية من النهر الخالد طوّروا الكثير المحلي المنفرد، في مستويات المعجم والبلاغة والدلالة والتعبير، فضلاً عن العادات والتقاليد والسرديات؛ والواجب يقتضي، تالياً، استثمار هذا التراكم الخلاق، في القصيدة المحكية بادئ ذي بدء، وفي النسق الغنائي منها على وجه التحديد.
هذا هو موقف شاعر فراتي كبير هو عبد الناصر الحمد (1958 – 2020)، الذي اختطفته جائحة كورونا قبل أيام في دمشق؛ والذي ظلّ يساجل بأنّ صلات القربى مع الشعر الشعبي العراقي لا يصحّ أن تطمس سلسلة طويلة من الخصائص الذاتية التي تميز بها الشعر الشعبي الفراتي السوري، والمغناة الفراتية التي ابتدعت صِيَغ «الدارمي» و»الأبوذية» و»الزهيري»؛ ومَن يصغي إلى المطرب الديري ذياب مشهور، وأغنيته «ع المايا» بصفة خاصة، لن يصعب عليه إدراك الاستقلالية العالية التي تعكسها الجملة النغمية وكتلة المفردات والمناخ الشعوري الإجمالي. وقد يكون هذا هو التفسير الأوّل وراء انجذاب مطرب عراقي كبير مثل سعدون الجابر، إلى قصيدة الحمد الشهيرة «عشرين عام»، حيث سارع إلى اعتمادها في أغنية لا تقلّ شهرة، ليس على امتداد مناطق الفرات وحدها، بل كذلك في الخليج العربي. لافت، إلى هذا، أنّ الشاعر الحمد استلهم حكاية عوليس في «أوديسة» هوميروس، وتيهه الطويل قبل بلوغ إيثاكا مجدداً؛ ولكنه شاء لقصيدته أن تلعب على مزيج من شغف الغزل، وأسى الشيخوخة، والعتبى على شباب انقضى دون أن يطوي لواعجه: «قلي اش جابك علي، وايش ذكرك بينا/ عشرين عام انقضن، وانتا اللي ناسينا/ شيّبنا شوف الشعر، لونه اش عمل بينا/ ذكرتنا بالصغّر، وايام منسية»؛ ثمّ الخاتمة الفاتنة حقاً: «بيّاع مين يشتري، حلمي ومواويلي/ ينطيني قلبه الخلي، وياخذ سهر ليلي/ ملّيت من حسرتي، واللي هدم حيلي/ بيعوني تالي قلب، ما ضل قلب بيّا».
وفي كلّ حال، وأياً كانت طبائع التيار الذي تنتمي إليه الشاعرة أو الشاعر، أو الخيارات الأسلوبية والكتابية التي تنتهجها القصيدة، فإنّ الفرات/ النهر والفرات/ الاستعارة العليا، والفرات/ الأسطورة المقيمة، تظلّ محاور مركزية يندر أن يغادرها الشعر.
*القدس العربي