تُجمع غالبية استطلاعات الرأي على مواقع أندية الكتب والإصدارات الجديدة، ومثلها لوائح المؤلفات الأكثر مبيعاً في الصحف الكبرى، على أنّ مذكرات الأمير هاري هي الأكثر ترقّباً، وبالتالي سوف يكون الإقبال عليها هو علامة السنة الجديدة الراهنة 2023؛ بالنظر إلى أنها سوف تنزل إلى المكتبات والأسواق يوم 10 كانون الثاني (يناير) الجاري، تحت عنوان “احتياطي”، عن دار النشر بنغوين/ راندوم، في 416 صفحة، باللغة الإنكليزية، وفي ترجمات عُرف منها رسمياً حتى الساعة 15 لغة عالمية. السنة المنصرمة كان رحيل جدّته الملكة إليزابيث الثانية هو الحدث، الذي لم يكن الأمير وزوجته ميغان بمنأى عن عدساته أيضاً؛ والأسابيع المقبلة لا تَعِد بهرج ومرج حول كتاب المذكّرات في ذاته فحسب، بل تُنذر بعواصف شتى في بيت آل وندسور، وبفضائح مستعادة مستهلَكة وأخرى وليدة طازجة سوف يُكشف عنها النقاب.
لافتة، إلى هذا، مقادير الفضول العامّ الواسع والمتنوّع والمتنامي، الجَمْعي كما قد يجوز القول، الذي لا يجتاح البريطانيين وحدهم بالطبع، بل يتجاوزهم إلى شعوب الأرض كافة؛ من حول أسرة ملكية لاكت سمعتها الألسن والأقلام على مدى عقود وقرون، أو هي أُشبعت فضحاً وتعريضاً وتشنيعاً، فلم توفّرها حوليات التاريخ ولا أشفقت عليها صنوف الدهر. ليست أقلّ إثارة للانتباه أنّ أنماط الفضول تلك اقترنت، على نحو مدهش ونادر في حالات كثيرة، بأنساق من التخييل الجَمْعي بدوره، يتشارك في الخضوع لإغوائه رجلُ الشارع الشعبي مثل رجل البلاط الأرستقراطي، والمؤرّخ النبيه الملتزم مثل كاتب “عرضحال” قصر بكنغهام، وأبناء مستعمرات التاج البريطاني السابقة في الهند مثل ضحايا اللورد بلفور وت. إ. لورانس في المشرق العربي.
والذي سيهرع باكراً صباح 10 كانون الثاني المقبل لشراء نسخته من “احتياطي” سوف يتلهف على معرفة اسم الشخص العنصري داخل العائلة، الذي تلفظ بنبوءات حول اللون الداكن المحتمل لبشرة نسل هاري وميغان؛ أو سيقلّب الصفحات سريعاً للوقوف على ما يقول الناشر إنه سرد “بصدق لا مراء فيه” حول رحلة الأمير من “الصدمة إلى التعافي”؛ فضلاً عن استجماع تفاصيل حبلى “بالبصيرة والإشراق واستبطان الذات والحكمة المكتسبة بشقّ الأنفس عن السلطان الأبدي للحبّ على الحزن”، كما يضيف الناشر أيضاً. شرائح أخرى من القرّاء، محدودة أغلب الظنّ، سوف تواصل إشباع رغائب قديمة في ملء الفراغات التي تعيد ترسيم صورة “أمير الشعب”، كما سار عنوان كتاب كريس هتشنز، 2013؛ واقتفاء أثر والدته الليدي ديانا في أعمال خيرية قادته من أفريقيا إلى القطب الشمالي، وفي غراميات لا تشبه سلوك الأمراء بقدر ما تحاكي البريطاني العادي في الشارع أو الحانة.
مرجّح، أيضاً، أنّ المكتبات سوف تستقبل ذلك الشاري المتلهف على معرفة تفاصيل التفاصيل في صراع الأخوَين وليام وهاري، بحثاً عن مزيد لم يفلح في تغطيته كتاب روبرت ليسي “معركة الأخوين”، 2021؛ وكيف أنّ التربية ذاتها، برعاية الأمّ إياها، قادت إلى شخصيتين ومسارين ومستقبلين. صحيح أنّ محتوى الخصومة بين الأخ وأخيه لا يسير على خطوط ملموسة، وهي أبعد ما تكون عن استعادة أمثولة قابيل وهابيل في مسائل المُلْك والجاه والصورة الخارجية والحبّ والبغضاء؛ إلا أنّ الصحيح الموازي يوحي بأسباب خافية متضاربة ومتعاظمة، سيّما وأنّ الكثير منها ليس سوى كتلة أحاجٍ وألغاز، تقدح الفضول وتلهب المخيّلة. فكيف وأنّ حكايا وليام وهاري، أو بالأحرى حوادثها كما تُروى بضمير الغائب تحديداً، قد دخلت في نطاق آلة الميديا الطنانة الطاحنة، من عيار أوبرا وينفري مثلاً.
وحال الفضول الجَمْعي هذه تعيد إلى الأذهان حقيقة أنّ النجاح المدويّ لفيلم “الملكة”، 2006، لم يكن مردّه سلسلة أسباب فنية تخصّ التمثيل أو السيناريو أو الإخراج، بقدر ما تعود إلى ملابسات وقائعية سياسية وسوسيولوجية ونفسية؛ لعلّ في طليعتها الحدث الرئيسي الذي تبدأ منه، وتدور في حيثياته، حبكة الفيلم وأحدوثاته الفرعية مثل ذروته الدرامية الختامية: مقتل الليدي ديانا في صيف 1997، وما إذا توجّب على الملكة – أمام المطلب الشعبي، وضغط صحافة التابلويد، والهستيريا الجماعية أو الجَمْعية إياها – أن تبدي اكتراثاً علنياً بالحدث؛ على نقيض من البروتوكول الملكي الصارم (كأنْ يتمّ تنكيس العلم فوق قصر بكنغهام حداداً، الأمر الذي ليست له سابقة في تاريخ العرش)؟ أم تواصل الملكة إقامتها في بولمورال، منتجعها السكوتلندي البعيد عن صخب العاصمة، غير آبهة بإلحاح الشارع ومناورات رئيس الوزراء توني بلير، الذي سارع إلى ركوب الموجة الشعبية العارمة؟
كانت الليدي ديانا روحاً معذبة، بالطبع، لكنها ظلت أيضاً فاتنة وساحرة في آن، أُزهقت بسبب من الصورة، أيقونة الإنسان المعاصر، هذا الحيوان الإعلامي بامتياز؛ ولأنها انخرطت في نضال حقيقي ضدّ صنمية فكتورية صلدة متكلسة، لم تقتصر على تقاليد الرياء البروتوكولي وحدها، بل اقتضت التنقيب في شرايين الصبية التي باتت أميرة، بحثاً عن “شوائب” ما في دم غير ملكي مئة في المئة.
ويبقى أنّ ثمن إشباع فضول الجمهور استوجب من الناشر مكافأة الأمير بـ18.4 مليون جنيه إسترلينى، دفعة أولى ضمن عقد يبلغ 36.8 مليون جنيه إسترلينى؛ وفي هذا احتياطيٌّ يتجاوز الفضول إلى المغنم النفيس الجزيل!
*القدس العربي