إلى الأضواء يعود مجدداً المخرج الأمريكي التقدمي أوليفر ستون (صاحب «وول ستريت» و«نكسون» و«بلاتون» و«JFK»)، ليس لأنه أحد كبار صنّاع الفنّ السابع في الولايات المتحدة، أو لأنّ السينما التي يقترحها جديرة دائماً بالاحتفاء أو بالاهتمام على أقلّ تقدير؛ بل، هذه المرّة أيضاً، لأنه خرق المألوف المتفق عليه، أو المسكوت عنه بالأحرى، في ملفّ اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون ف. كنيدي، يوم 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963. وكما هو معروف، في سنة 1991 أخرج ستون النسخة الأولى من شريطه الذي ساجل على نقيض تامّ، وصاعق مذهل، من الرواية الرسمية التي تتهم لي هارفي أوزوالد بارتكاب الجريمة؛ وتلقي بظلال ارتياب جادّة، عالية التوثيق، على فرضيات مؤامرة تشمل رئيس الأركان المشتركة والمخابرات المركزية ونائب الرئيس لندون جونسون، أكثر من التركيز على أوزوالد أو حتى تبنّي إدانته.
في السنة ذاتها، بتأثير الضجة العارمة التي أحدثها الشريط، صوّت الكونغرس على تشريع يقضي بالإفراج عن وثائق حكومية تخصّ الاغتيال، وتعاقب الكشف عن وثائق جديدة، فكانت الدفعة الأحدث في أواخر العام المنصرم 2021، وثمة أخرى تنتظر النشر. في المقابل كانت مؤلفات المؤرخ الأمريكي جيمس دي أوجينيو، المكرّسة لكشف أسرار الاغتيال، تتعاقب بدورها؛ وكان في عدادها كتابه الأبرز «خيانة قدر: ج ف ك، كوبا، وقضية غاريسون»، وتضمن إعادة تمحيص صارمة في خلاصات المدّعي العام جيم غاريسون الذي تولى التحقيق في القضية. كذلك تعاون دي أوجينيو مع ستون على تحرير كتاب جديد بعنوان «ج ف ك عود على بدء: من خلال المرآة»، يتناول شريط ستون الجديد، والذي حمل العنوان ذاته.
الشريط وثائقي بالطبع، من إنتاج أمريكي – بريطاني مشترك، يتصفّح الوثائق الأحدث التي تمّ الإفراج عنها بموجب قانون الكونغرس، ويعود إلى استفتاء آراء 26 شخصية كانت أو تظلّ على ارتباط بعملية الاغتيال، ويتناوب على سرد المشاهد راويان: الممثلة الامريكية هوبي غولدبرغ، والممثل الكندي دونالد سذرلاند. وقد عُرض الشريط في كان الفرنسية حيث أرفع مهرجانات السينما العالمية، كما كان ستون ضيف شرف على مهرجان مدينة كيبك في كندا؛ وفي المناسبتين لم يسلم المخرج وشريطه من هجمات شرسة تُدهش مقادير التنظيم المنهجي خلفها من جانب أوّل، كما تؤكد من جانب ثانٍ تأصّل العطب الأمريكي العتيق حول النفور من انكشاف الحقائق، الصادمة منها والمخالفة للمألوف المتواطؤ عليه خصوصاً.
والعداء لسينما الكابوس هذه، التي عُرف بها ستون على الدوام، لم يقتصر على قضية واحدة أياً كانت حساسيتها الشعبية، وربما الشعبوية على وجه التحديد، مثل اغتيال ج. ف. كنيدي؛ ولا يلوح أنه سوف يقتصر على ملاحقة المخرج إياه بسبب شريطه التسجيلي الفارق الذي تناول شخصية أدولف هتلر، أو شريطه الذي نهض على الحوار الأكثر تميّزاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو اليوم في مواقفه التي تدين الغزو الروسي لأوكرانيا ولكنها تحثّ على السلام عبر المفاوضات. وقلّة، أغلب الظنّ، من الذين يهاجمون ستون في كلّ مناسبة متاحة يمكن أنهم غفروا له مواقفه الجسورة من الأسطوانة العتيقة إياها، تهمة العداء للسامية؛ أو تنويعها الآخر الصارخ، المتمثل في الهيمنة اليهودية على قلاع الإنتاج السينمائي في هوليوود.
وذات يوم غير بعيد لم يجد ستون مفرّاً من التصريح العلني بما هو شبه محرّم، وشبه محظور، فتحدث صراحة عن «السيطرة اليهودية على وسائل الإعلام التي تمنع النقاش المفتوح حول الهولوكوست»، وعن «لوبي يهودي في الولايات المتحدة يسيطر على السياسة الخارجية منذ سنوات طويلة»؛ بل ذهب أبعد، فقال إنّ «هتلر كبش فداء سهل»، و»إذا كان هتلر بمثابة فرنكنشتاين، فهناك أيضاً دكتور فرنكشتين وراء إطلاقه، في أوساط الصناعيين الألمان والأمريكيين والبريطانيين»…
وليس تأثيم سينما ستون التي تفضح الأسرار وتكشف المستور أياً كانت عواقبه الكابوسية، وتأثيم شخصه لأنه يواصل العناد في خياراته هذه، سوى تذكرة بعشرات الكتّاب والفنانين اليهود الذين وُجّهت إليهم تهمة العداء للسامية ذاتها، لأسباب شتى متباينة، لكنها تلتقي عند مشترَك واحد هو نقد السياسات الإسرائيلية، أو اتخاذ مواقف منصفة تجاه الحقوق الفلسطينية. اللائحة تضمّ أمثال وودي آلن، الممثل والسينمائي، لأنه أعلن العجز عن هضم مشهد جندي إسرائيلي يدقّ بالحجارة عظام فتى فلسطيني أعزل؛ وسيمور هيرش، الكاتب والمحقق الصحافي، لأنه نبش أسرار التسلح النووي الإسرائيلي في كتابه «خيار شمشوم»؛ ومايكل ليرنر، الحاخام المستنير ورئيس تحرير المجلة اليهودية الثقافية/ الفكرية Tikkun ، لأنّ خطّ التحرير ينتقد إسرائيل؛ والروائي والقاصّ فيليب روث، لأنه لم يكرّم الأسرة اليهودية كما يتوجب عليه.
ولا جديد هنا، فهذه فصول متعاقبة في حكاية عتيقة لا تكفّ عن التجدّد عن طريق إعادة إنتاج فصولها، التي لم تبدأ من العدم والفراغ؛ ولهذا فإنها لن تنتهي بفعل التحريم والفزاعات الفكرية والقوانين التي تقود إلى السجون. وليس لهذا التراث العريق أن يتوقف في أي وقت قريب، ما دام الذين يريدون استئصاله من العقول والضمائر والسجلات لا يقومون بشيء آخر سوى مصادرة العقول والضمائر والسجلات؛ وإذْ يخشون فيه روح الكابوس، فالمفارقة أنهم يحّولونه إلى كابوس من نوع جديد، ومتجدد بدوره.
*القدس العربي