كتاب «توثيق سوريا: صناعة الفيلم، تنشيط الفيديو، والثورة»، الذي صدر باللغة الإنكليزية في سنة 2019 بتوقيع يوشكا فيسلز الأستاذة في جامعة لوند، السويد؛ هو أحد أهم المؤلفات الأشمل عن السينما التسجيلية السورية بصفة عامة، وهذه السينما منظوراً إليها كفعل معارضة ومقاومة خلال عقود حكم حزب البعث وآل الأسد، ثمّ خلال سنوات الانتفاضة الشعبية بعد عام 2011، بصفة أعمّ. وليس هنا المقام المناسب لتثمين الكتاب، حتى بمعنى المراجعة التعريفية الوجيزة، إذْ أنّ فصوله تستحق استفاضة أوسع وإنصافاً أفضل، خاصة تلك التي لا تتوقف عند كبار التسجيليين السوريين بقدر ما تُفرد مساحات سخية لأمثال الشهيد باسل شحادة، ونموذج تفعيل اليوتيوب، وسياسة الصورة ومعضلات التوثيق والتناقل، ثمّ عوائق التواصل مع العالم الخارجي ومنصات العرض وعمالقة الاحتكار الرقمي…
مناسبة هذه السطور، في المقابل، هي أنّ المؤلفة اختارت لغلاف كتابها صورة فوتوغرافية فريدة وبديعة، تمثّل السينمائي التسجيلي الكبير عمر أميرالاي (1944-2011)، الذي حلّت قبل أيام الذكرى الـ11 لرحيله. اللقطة تُظهره جاثياً على الأرض، يتفحص (بعين يمنى، ويسرى مغمضة) عدسة كاميرا راقدة بدورها على الأرض؛ وثمة، في الخلفية، ما يوحي بموقع تصوير قريب من بحيرة الفرات، ربما أثناء تصوير «محاولة عن سدّ الفرات»، 1970؛ أو «طوفان في بلاد البعث»، 2003. المناسبة، هنا، هي استعادة ذكرى أميرالاي من جانب أوّل، وكذلك التوقف عند نماذج من التمثيلات المميزة التي حظي بها في دراسات أكاديمية رصينة حول السينما التسجيلية السورية من جانب ثانٍ.
فيسلز، على سبيل المثال، تضع أميرالاي في خانة الآباء المؤسسين للسينما التسجيلية في سوريا، وترصد تعاونه المبكر مع العراقي قيس الزبيدي، ثمّ أنشطة النادي السينمائي الذي احتضنته صالة الكندي في البدء. كما تخصص له صفحات وفيرة تستعرض فيها غالبية أفلام أميرالاي، وتمزج تحليلاتها الثاقبة بملاحظات اعتراض هنا أو تحفّظ هناك، ساقها النقاد على بعض الأعمال («الرجل ذو النعل الذهبي» بصفة خاصة، وليس دائماً لاعتبارات إيديولوجية حصرية). لكنّ المحصلة، في يقين هذه السطور بالطبع، تبلغ سلسلة خلاصات صائبة حول سينما أميرالاي، على أصعدة فنية أوّلاً، ثمّ سياسية وفكرية تالياً.
وأمّا فيولا شفيق، الناقدة والمخرجة السينمائية الألمانية – المصرية، فإنها في كتابها «السينما العربية: التاريخ والهوية الثقافية»، 1998، تعمد إلى تصنيف السينمائيين العرب قياساً على مقولات عريضة، بل فضفاضة أحياناً؛ لا تخلو من تعسّف مدرسي وأكاديمي (إذْ أنّ النصّ كان، في الأصل، أطروحة دكتوراه). وهكذا، تُدرج أميرالاي في مقولة شاملة أولى هي «الواقعية»، وأخرى فرعية هي «وثائق الحياة اليومية»، والأسلوبية الغالبة هي أنّ «الواقعية التسجيلية» تتحقق من خلال استخدام ممثلين هواة، وتصوير البيئة والمحيط على نحو تكثيفي، ومن خلال شروط الحياة المتدهورة للطبقات الفقيرة. ولا عجب أننا نعثر ضمن تصنيفات شفيق على عطيات الأبنودي وهاشم النحاس وأحمد راشد وخيري بشارة، من مصر؛ وجان شمعون ورندة الشهال وجوسلين صعب وهيني سرور، من لبنان؛ ومي مصري وغالب شعث، من فلسطين. وهؤلاء، تقول شفيق، تأثروا بحركات «السينما المباشرة» و«سينما الحقيقة» في الغرب، ومثّلوا «أيديولوجيات ليبرالية ويسارية خلال الستينيات» كما استفادوا من إدخال تقنيات الـ16 ملم.
ولعلّ شريط «الحياة اليومية في قرية سورية» 1974 الأفضل من أميرالاي، في يقين هذه السطور دائماً، هو وثيقة بليغة تُسقط عن الراحل أيّ تصنيف مدرسي وتبسيطي من طراز سينما الواقع أو السينما المباشرة؛ لأنه كان، ويظلّ، رسالة قصوى شاء أميرالاي، صحبة المسرحي السوري الكبير الراحل سعد الله ونوس شريكه في التصوّر، تدوينها داخل القرار العميق من بصيرة المشاهد، بعد أن تكفّلت كاميرا حازم بياعة وعبده حمزة باقتياد بصره إلى مواطن محتشدة بالتفاصيل والمعنى والدلالة، في غمرة جماليات قاسية وجارحة، بقدر ما هي جذابة طافحة بإيقاعات الأسود والأبيض. كذلك تولى السيناريو، البارع والذكيّ والمتقشف في آن معاً، إحداث الصدمات المتتالية طيّ المفارقات الساخرة الخشنة، واستثارة الذهول البسيط قبل استدراج حسّ الاستفزاز البالغ، على امتداد 80 دقيقة من مشهدية الحياة اليومية في قرية «المويلح»، على أطراف وادي الخابور، شمال شرق مدينة دير الزور.
ورغم أنه كان من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، فإنّ الشريط مُنع من العرض، ودشّن بذلك تلك الحال السوريالية التي تجعل قطاعاً حكومياً ينتج أشرطة ذات قيمة فنية عالية، تلقى الترحاب في المهرجانات العربية والعالمية، ولكنه يبقيها حبيسة العلب في سوريا ذاتها (المثال الكلاسيكي الأبرز يظلّ فيلم أسامة محمد «نجوم النهار»). ولقد شاءت هذه السطور التركيز على «الحياة اليومية في قرية سورية» لأنه صنع أيضاً تلك النقلة الحاسمة الكبرى في السينما التسجيلية السورية، عموماً؛ وفي شطر منها ينهض، خصوصاً، على نقد جسور لسياسات السلطة في ميادين انحطاطها الأكثر أذى، وديماغوجية. وقد يصحّ القول إنّ الفيلم التسجيلي السوري كان في حال، قبل نقلة أميرالاي تلك، ثمّ صار بعدها في حال أخرى رسّخت سلسلة مقتضيات لحدود التوثيق الدنيا، كما أشرعت سلسلة أخرى من ضرورات الارتياد وكسر الحدود.
وكذا اقتضت ذكرى الراحل، في هذه السطور، ويقتضي وفاء الحدّ الأدنى لذاكرة سينما التسجيل السورية.
*القدس العربي