صالح رزوق: “ظل الريح” لكارلوس زافون، مالها وماعليها

0

في رواية «ظل الريح» للإسباني كارلوس زافون ثلاث دوائر متداخلة: حكاية دانيال الشاب الذي يكتشف كتابا عنوانه «ظل الريح» في إحدى المكتبات القديمة في مدينة برشلونة. ثم ملابسات حياة خوليان كاراكس وهو المؤلف الفعلي لـ«ظل الريح». وأخيرا شخصية لاين كوبيرت، الذي يطارد مؤلفات كاراكس ويحرقها بحجة أنها تدعو للرذيلة وتشجع على الشر.
وخلال هذه الحبكة يعيد زافون تركيب مدينته المحبوبة برشلونة بصورتين: دايستوبيا فاشية يديرها العسكر والبوليس السري من طرف، والمافيا من طرف آخر. ثم يوتوبيا تعيش بوحي من خيالاتها الأخلاقية والنبيلة. ويضمن زافون الوحدة العضوية لعمله بواسطة صعاليك ومتشردين، لا يحتكمون للمنطق، ويعيشون باستمرار على الحد الفاصل بين العقل والوعي الباطن أو اللاشعور. ومنهم فيرمين الذي ينظر للنساء والحب على أنهما وجهان لعملة واحدة. فالمرأة برأيه شكل (دايستوبيا) والحب مضمون (يوتوبيا). وتقوده هذه الفلسفة ليقول عن قلب المرأة إنه آلة معقدة. وهكذا يجمّل زافون صورة الواقع المؤلم بحيل وألعاب غريبة، مثلما فعلت الواقعية السحرية. مع ذلك هو يختلف عنها بمجموعة نقاط.
* في الواقعية السحرية البطل هو الرجل، وبحالة استنفار دائم. بينما في «ظل الريح» يخيم رهاب الخصاء على معظم العلاقات. فقد انتهى حب دانيال لكل من كلارا العمياء وبيا الارستقراطية، بدرس في التهذيب وبالضرب المبرح.
*الثانية المرأة عند ماركيز وجماعته ساقطة أو عاهرة. وقديسات ماركيز حصرا من بائعات الهوى. لكن تحتل نساء زافون مرتبة كنز مرصود، حتى أنه لكل منهن ملاكها الحارس كالأب أو الأخ أو المعلم (المايسترو) الذي يأخذ شكل أنا أعلى متسلط. آخر نقطة هي الحوار. فهو مختصر جدا في الواقعية السحرية، ويحتل الوصف كل المساحة. بينما الكلام في «ظل الريح» غاية بحد ذاته. وبلغة باختين كانت الحوارات موضوعية وذاتية، مثل الفعل الإنساني، وتوسع اللغة من خارج اللغة، وتشكل واقعا لفعل التخاطب. ولذلك كانت الشخصيات استعراضية مثل، أبطال جين أوستن، وليست عجيبة مثل أبطال ماركيز أو أليندي. واختارت البنية أن تكون جزءا لا يتجزأ من العقل المفتوح لما بعد الحداثة بواسطة تصورات تعود أساسا للسرد البدائي، كالرسائل والمفكرات والتفكير بصوت مسموع. وليس معلوما بالضبط ماذا يحدو زافون لاستعمال هذه الكولاجات، أو الملصقات. لقد استعملها بطريقة رواية داخل رواية، أو تجاوزا ما يشبه تكنيك الأصوات. لكنه لم يعمل على توزيع نشاط كل صوت بالتساوي داخل البنية، وخص شخصية أو اثنتين من أصل حوالي عشرين بهذه الميزة. لقد قدّم لهما إمكانية الإعراب عن صوتهما الخاص، في حين كمم أفواه من تبقى.

وكانت هذه الأصوات الدخيلة ذات مفعول مثمر، فقد عملت على إلغاء الحقائق التي ذكرها بطل الرواية دانيال واستبدلتها بحقائق بديلة. وإذا لم تكن هناك مشكلة في اكتشاف الحقيقة الفنية، على دفعات، فإنه يصعب فهم لماذا أصر زافون على بيع الحقيقة وكأنها وهم. ولنأخذ مصير خوليان كمثال. لقد قدمه زافون منذ الصفحات الأولى على أنه ضحية لمبارزة في إحدى المقابر. لكن كشف في الصفحات الأخيرة أن الميت هو صديقه ميغيل. لقد أغرم زافون بحجب الشخصيات والكشف عنها، مثلما أغرم بتبديل المصائر (أنظر آخر فصل بعنوان: المآلات). ولم يكن معنيا بخط واحد في أسلوب الكتابة. لقد مزق العقد بين الكاتب وروايته، واختار لها أن تضيع في متاهة من الأساليب: كالحواريات والرسائل الطويلة والمذكرات، بالتناوب مع أسلوب المطاردة البوليسية. وكان لكل خط من هذه الخطوط ذاكرة فنية، سرعان ما يمحوها الأسلوب اللاحق. وتناوبت مع هذه الحيلة هندسة المباني. فقد اختار زافون أن تكون على النمط الباروكي، كثيرة الزخارف، ويخيم عليها الظلام وباردة، بعكس جو البلاد الحار، الذي يغلي بالصراع السياسي والعسكري. ورمز زافون لهذا المحور بشخصية فرانشسكو خافيير المحقق السادي، وهو إنسان مجزأ دون موقف أو أيديولوجيا، وكل ما يهمه إلقاء القبض على الضحايا وتعذيبها.
لقد عرف زافون كيف يجعل الذاكرة تغسل نفسها وتنسى معناها، ولم تعد تمثل مرحلة من التاريخ بقدر ما تمثل طورا من أطوار التهيؤ للإلغاء أو النفي، وكأنه يعيد بناء حاضر إسبانيا على أساس من التثبيت والتنظيف. وإسبانيا أو شبه الجزيرة الإيبيرية أساسا هي ملتقى عدة أديان وحضارات، بدءا من الإسلام، وحتى النازية والفاشية. ولذلك فصل زافون الوعي عن المعرفة، مثلما كان عليه أن يفصل معنى تسلسل التاريخ عن ثوابت الحضارة وإدراكنا لها. ولا يمكن أن تستغرب مثل هذا الإجراء من كاتب من نوع زافون: فهو مولود في برشلونة عاصمة إقليم كتالونيا. وأمضى الهزيع الأساسي من حياته في لوس أنجليس الأمريكية. بمعنى أنه كان منطقة تنازعت فيها الهويات والثقافات. وبهذه الطريقة أعادت «ظل الريح» للرواية الحديثة أنفاسها الميتة، وخلصتها من مشكلة التقشف بالسرد، ومن عيوب موت التاريخ كما يقول الناقد الأدبي حمزة عليوي.
وتبقى عدة ملاحظات لا بد من ذكرها.
أولا: إن المباني الباروكية في الرواية تخلو من السكان، وتضم رفات الأحياء فقط، ولذلك خيمت عليها حتمية لا تلائم مبدأ التشويق.
ثانيا: الحبكة مفتوحة والشخصيات مغلقة ولذلك أخلّت بمبدأ الشكل المكاني للشخصيات (حسب افتراض باختين). بمعنى أنها وضعت الشخصية خارج وعي المؤلف بها.
وثالثا: إنه يمكن إلغاء أجزاء من المحاورات دون الإضرار بالمعنى أو الحبكة. ومثل هذا الخلل العضوي أدى لعدم تساوي وحدات السرد والفصول، وعدم تبني صوت شخصية واحدة مسؤولة عن ترتيب الأحداث والتفاصيل. فكل الروايات الجديدة إما أن 1- تلجأ لتناوب الأصوات، أو (2) لشخصية مركزية يدور الآخرون من حولها. أما «ظل الريح» فقد فرضت نفسها على الأصوات، إذ كانت أصواتا موجهة وليست بريئة ولا محايدة، وفي الوقت نفسه وضعت الشخصية المركزية بمساواة البقية، دون أي تميز أو علامة فارقة. لكنها في النهاية تبقى من أهم البكائيات التي كتبت مرثية موجعة لمصير الإقطاع الوطني، بشكليه الزراعي والصناعي، الذي دمّر إسبانيا بآلته العسكرية وبطموحاته.
«ظل الريح» ترجمة معاوية عبد المجيد. مسكيلياني للنشر. تونس. 2016.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here