لا توجد شخصيات شعبية في أعمال إنعام كجه جي. فهي تختار أبطال أعمالها من بين المثقفين، وتحرص على تصنيفهم في شرائح يعزلها مفهوم خاص للرجولة والأنوثة.
الرجل أيديولوجي ومناضل يتآكل ذاتيا وينتهي به المطاف لاعتزال الحياة أو الموت بحفل طقوسي يرافقه النزوع للتدمير والدم. وهي رؤية شرقية مرتبطة أساسا بفهم المشرق لمعنى العار والذنب وامتلاك المرأة. أما الأنثى فهي جوالة آفاق، معتدلة باختياراتها وتميل للتراكم. وهي دائما سلبية ومحتارة. لا تستطيع أن تتفاهم مع واقع تفرضه سلطات مجهولة من الأعلى كما فعلت في «طشاري» و»النبيذة». وعمليا لا يوجد فرق بين الطبيبة في «طشاري» والجاسوسة وسيدة الصالونات في «النبيذة». كلتاهما لديها أكثر من سبب لفك الارتباط مع واقع الداخل – في أول حالة، وواقع الخارج – في ثاني حالة. لكنها في أولى مجموعاتها القصصية وهي «بلاد الطاخ طاخ» تدمج الطرفين. وعوضا عن أن تنظر للحياة بشكل دائرة مكتملة تقدمها إلينا بشكل أجزاء متقابلة، كل جزء يستكمل ما يليه. بمعنى أنها تحول السرد من دورة حول الشخصيات، وتنتهي غالبا بحصار خانق للذات، إلى أحداث متتالية متكررة أو متشابهة. وهذا جزء لا يتجزأ من نظام نصف ميت وراكد يجد نفسه في مواجهة مع شخصيات نسائية غير خارقة ومصنوعة من زجاج، والأهم أنها بذاكرة متحولة. وأن علاقتها بنفسها تحكمها قوانين الاغتراب وجفاف الينابيع والمصادر. لذلك تحشد في جميع القصص عناصر متضادة ومتناحرة. مثلا الحاضر أمام الماضي، والمتحرك ضد الساكن، والمرأة مقابل الرجل. وتختزل كل تلك السلسلة الدامية من الصراعات إلى جدل بين عنصرين من عناصر الخلق في الطبيعة وهما الماء والتراب. ولا ضرورة للتذكير أن كليهما مذكور بشكل أو آخر في أساطير التكوين وفي كل الكتب المقدسة.
وتساوي إنعام كجه جي في هذه القصص بين التراب والذكورة. وترى أن كليهما قوة تعطيل تدل على الموت السريري والبلادة، فالتراب للدفن والذكورة للبطش والطغيان. ولا أعتقد أنها مجرد صدفة أن تختار للرجال وظيفة عنصر مخابرات على نقطة حدودية (قصة عهود وحدود) أو دور تمثال لعسكري يتقلد أوشحته الباهتة في متحف (قصة بلاد الطاخ طاخ). أو أن يكون ريفيا بسيطا يعيش بين آثار متداعية في خلاء مفتوح على كل الجهات (قصة مرآة كرداسة). وفي غمار هذه المعمعة ضد كل شيء مذكر لا تنسى أن تجرد الرجل من الإحساس بالتاريخ أن ترسمه بصورة ميت حي. فهو وثن في متحف في قصة «بلاد الطاخ طاخ» أو أنه رب ميت في معبد دون أتباع كما في قصة «عهود وحدود».
أما الماء فتسخره لتعويم دور المرأة الإلهة أو مركزية المرأة.. حتى أن قصة «الخوافات» عن سبع أخوات يجتمعن وسط البحر لقتل قائد حافلة يرمز لأب غير مرغوب فيه. وهذا أول اختلاف مع التفسير الأوديبي لعلاقة البنات بالأب. وفي هذا السياق تبدو النساء بشكل جنيات ذوات ضفائر شعر محلولة تطير مع الريح – إشارة إلى باندورا، أو ربات بقميص مفتوح تتدلى منه نهود مباركة وتحتها سرة تلمع بضوء الشمس – إشارة مفضوحة لعشتار وإنانا، أو في هيئة كاهنات تبتهلن في معبد جدرانه من أمواج متلاطمة. ويمكن أن نستنتج من هذه الحبكة ثلاث مسائل.
الأولى أن المرأة لا تتخلى عن دورها الأساسي في الإنجاب والتكاثر. بمعنى من المعاني إنها إلهة مانحة كالماء.
الثانية أن لقصص كجه جي بنية عائلية، بالإضافة إلى «الخوافات» توجد علاقة صداقة أخوية ومتينة بين امرأتين في قصة «مرآة كرداسة» وعلاقة رحم وقرابة بين رجلين في قصة «مسدس من ذهب» عدا قصة «عمياء في ميلانو» وهي عن عائلة أوديبية نموذجية تتكون من أم وأب وابن، لكن الأم ضمن علاقات معكوسة، تكون فيها الأم هي العقل المدبر.
المسألة الثالثة والأخيرة أنها كلها تحض على تأخر مركز الأب. فهو غائب في «مرآة كرداسة» ويبدو بشكل رجل طيب وضعيف وأشبه بإنسان ليلي، محكوم عليه بإقامة جبرية تحت سلطة أم تعاني من داء العظمة، كما ذكر ابنها نفسه في قصة «عمياء في ميلانو». وترتب على ذلك أيضا غروب شمس دولة المدينة، أو الميتروبوليس. وعلى الأغلب هي تقصد بغداد وأخواتها – عواصم الشرق ذات المشروع العسكري التوسعي. وقد اختارت لها اسما طقوسيا أيضا وهو جنة آدم الوحيد، أو دولة الزعيم الضرورة. ويمكن أن تضيف ما تشاء من القاموس السياسي الذي عرفناه بين 1960 وحتى البيروسترويكا. وأعتقد أن هذه الأرقام تؤشر لتفاهمات دولية. فهي تشير لدخول الحرب الباردة إلى ساحة المواجهة في الشرق الأوسط. ولكجه جي رواية ممتازة عن هذا الموضوع وهي «النبيذة». وإذا كانت الافتتاحية باردة وبطيئة، فإنها سرعان ما تدخل في الحياة النفسية للشخصيات، وتقدم أكثر من نقطة تنوير لعدة ألغام سياسية جاهزة للانفجار. غير أن هذه البنية العائلية في كل القصص مفتوحة ويتخللها زحف creep في المواضع. فالصديقتان في «مرآة كرداسة» رمز لاختين. لكن لا يوجد بينهما تنافس على الأب، أو سلطته، أو ميزاته، ويختار الموت إحداهما لتغيب من الصورة، وتبقى الثانية لتتلصص على وجهها بالمرآة وتراقب زحف الشيخوخة.. ويحتل التلصص مكانة مرموقة في قصة «عهود وحدود» ونرى رجال الأمن في المطار يفتحون حقائب النساء عنوة ويستعرضون بمتعة سادية كل ما له علاقة بمكامن العيب كحمالة الأثداء والسروال الداخلي الصغير..
والحقيقة أن مثل هذه المشاهد تلغي بندا من بنود أوديب لتثبت غيره، فمواجهة النفس والغيرة من المعنى التاريخي للبيولوجيا الثابتة لا يدمر اعتزاز الإنسان بذاته لكن يجعله يشك بجدواه، وهكذا نصبح أمام أسئلة لامتناهية عن الأب الحقيقي المتواري عن الأنظار. هل هو الرجل الميت؟ أم أنه الشاهدة المرعوبة من التهديد بالخصاء التي تكتفي بالرؤية والمشاهدة وتلتزم حيال الواقع الجائر بصمت محزن قد تعبر عنه بدمعة يجوز لها أن تمسحها، وكأنها مزمعة على الإنكار وإخفاء دليل الإدانة كما في قصة «الكاميرا الأولمبس».
والأمثلة عن الخروج على سيناريو عقدة أوديب كثيرة ومتفرقة في كل القصص. منها غياب أي تناحر دموي بين الأخوة على منحة الإله في قصة «مسدس من ذهب». فهي تنتهي بالتراضي بين الأخوين – أحدهما يكسب المسدس والآخر يحصل على كومبيوتر جديد. بمعنى أنه توجد إزاحة في شكل التناص مع الأسطورة الدينية. فالهبة هي منة من الإله – القائد وليست من الأخوين. وقد ساعد ذلك على تطوير جدل بين الإله المختفي والأخوة المرئيين. ويؤكد على هذا التفسير أن الهبة كانت من أعلى إلى أسفل. ومنها أيضا ارتداء المرأة في «الكاميرا الأولمبس» درع البطولة ثم المثول بين يدي الأب المتأله وهي تبكي وتتوسل.. وكأن إنعام كجه جي آلت على نفسها أن تشير إلى الرزايا والأخطاء دون أي إلحاح على تبديل المصائر. وعن ذلك تقول بلسان بطلة القصة «حتى في مواقف هزيمتي أرفع علامة المنتصر.
صدرت القصص في القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية 112 صفحة عام 2022.
*القدس العربي