بحثتُ عنها في الأحياء القريبة. بدأتُ من حيّنا ثمّ وسّعت الدائرة إلى الأحياء المُجاورة وأنا أنادي باسمها وأتبعها بتقليد مواء طويل متقطّع، مُتجاهلا نظرات الاستهجان والسخرية من أهل الحارة، خاصّة الرجال منهم.
شاب طويل عريض يبحثُ عن قطّة كمن يبحث عن طفله الوحيد، وهنا يتربّصون بالقطط كطفلٍ زائد عن الحاجة.
فكّرت أن أتّصل بحبيبتي وأسألها عن قطّتنا، ماذا سأقول لها؟ لقد أهملتُ قطّتنا فاختفت أو هربت؟ ستداهمني الذّكريات والوجع وأنا أحاول منذ أسبوعين أن أنسى وأرمّم حياتي في بيتي القديم بعيدا عنها وعن حياة تقاسمناها لأربع سنوات. ليست فكرة جيّدة، أقلّه أتجنّب صمتها في الجانب الثاني من السّماعة وتنهيدة قد تكسرني. لقد عاتبتني عيناها ونحن نفترقُ عند باب شقتنا، لم تقل سوى: هي قسمة عادلة أكثر من السنوات التي اقتسمنا فيها كلّ شيء.
ربّما قصدتْ نصيبي في قطّتنا.
أو ربما الكتب، أو المُقتنيات الكثيرة الّتي جمعناها خلال أربع سنوات.
هي قسمة عادلة؟ القطّة والذكريات العميقة الموجعة.
بعد يومين قرّرتُ أن أغامر بمزيد من السخرية والاستهجان خاصة وأنّ علاقتي بأهل الحيّ لا تتعدّى سلاما صامتا وهزّة رأس خفيفة، فلن يضرّني أن يشطبوني من قائمة الرجولة الخشنة الّتي ترمي القطط من فوق الجدران وليس تلك التي تعلّق إعلانا يرصد مكافأة جميلة لمن يتعقّب قطّة بيضاء ويعيدها إلى صاحبها سالمة غانمة.
علّقتُ إعلانا كتبتُ فيه رجاء مختصرا ووصفا لقطّتي من الذّاكرة ورقم هاتفي. حاولتُ أنْ أحيّد الوجوه والتفاصيل الأخرى من صورتها المشوّشة أصلا. لم أتوقّف لأفكّر في أمرين: كيف لا أملك بين صوري الكثيرة صورة واحدة تجمعني وقطّتي؟ أو تجمعنا حبيبتي وأنا وقطّة مدلّلة؟ لماذا هذا الإصرار على استعادتها وأنا أفعل النقيض تماما: أحاول التخلّص من إحساس الفقدان الّذي يلازمني منذُ انفصلت عن حبيبتي.
لم يتوقّف هاتفي عن الرنين، اتصالات من غرباء ومجهولين يضربون لي موعدا لتسليمي مفقوداتي ويتسلّمون مكافأتهم، صار أطفال الحيّ أيضا يبحثون عن قطّتي،
في الصّباح تأتي مجموعة منهم تحملُ قطّة تعرضها علي بنشوة الظافر: لقد وجدناها. أنظر إليها ثمّ أعتذر منهم.
– ليست هي.
هل أنت متأكّد؟ انظر إليها جيّدا! يصرّون.
لا ليست هي.
لا تشبه تلك الّتي أبحثُ عنها.
بعد أسبوع من البحث والانتظار فكّرت أنّه من غير المُجدي أن أتركَ الإعلان معلّقا على خمسة جدران وشجرتيْن، رغم أنّ وتيرة الاتصالات قد خفّت وتراجعت، والقطط التي حملوها إلى باب بيتي عادت بخيبتهم وخيبتها.
ثمّ أنّه من المُضحك أن أعلّق إعلانا ليس فيه صورة تدلّ على أوصاف القطّة، ستصير كل قطط الشارع احتمالا معقولا.
وقفتُ أمام الإعلان الأوّل وقبل أن تسارع يدي إلى تمزيقه كانت صورة واضحة تطلُّ منه، صورة طفل يبتسم ملأ وجهه وهو يحضنُ قطّة بيضاء وتحضنهما معا يدان ناعمتان.
يبدو أنّ هناك من يلعب معي أو بي، وربّما هي مجرّد مزحة من عابر سبيل.
في الإعلان الثاني كانت الصورة نفسها تطلُّ عليّ.
وفي الثالث أيضا.
أمام الإعلان الخامس وقفتُ حائرا، هل ارتفع الجدار عن مستوى يدي أم أنّ قامتي قد تقلّصت؟ وقفتُ على أصابع قدميّ تطاولتُ وتطاولتُ وبأطراف يدي نزعتُ الإعلان. تفحّصته ثمّ قصصتُ الصورة منه وطويتها بحرصٍ في جيب قميصي، إنّها الصورة الوحيدة الّتي تظهر فيها يدا أمّي وكم قميصها، وخاتمها أيضا وعنقها.
القطّة البيضاء الّتي هربت من البيت بعد رحيل أمّي بيومين.
قبل عشرين عاما.
المصدر: اوكسجين