شوقي الريس: صورة نيرودا تهتز تحت وطأة انتقادات الحركات النسائية

0

كان الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، ينصح دائماً بتحاشي اللجوء إلى استخدام «أفعل التفضيل» في معرض تقدير الأدباء والشعراء وأعمالهم والحديث عن سيرهم الذاتية، لكنه عندما سئل مرة عن رأيه في الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، لم يتردد صاحب «مائة عام من العزلة» في القول إنه «أعظم شعراء القرن العشرين بكل اللغات».
وكذلك يقول الناقد الأدبي الأميركي الشهير هارولد بلوم، إن نيرودا، الذي وضع أهم ديوان شعري له «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» وهو ما كان يزال دون العشرين من العمر، إنه «تستحيل المقارنة بين نيرودا وأي شاعر غربي آخر»، معتبراً أنه واحد من أهم عشرين مؤلفاً غربياً في كل العصور.
المعروف، أن نيرودا توفي في سبتمبر (أيلول) من عام 1973، بعد أسبوعين فقط من الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال أوغوستو بينوتشيت، ضد الرئيس التشيلي وصديق نيرودا الشيوعي سالفادور الليندي، الذي رفض الاستسلام وقضى مدافعاً بالسلاح عن «إرادة الشعب» في قصر «لا مونيدا». قيل يومها إن الشاعر الذي كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التشيلي ونال جائزة نوبل للآداب في العام 1971، لم يتحمل نبأ مقتل الليندي وانتصار الانقلابيين، وثمة من قال إن المرض العضال الذي كان أصابه دبرته المخابرات الأميركية التي كشفت الوثائق الرسمية بعد سنوات أنها كانت وراء الانقلاب الذي أدى إلى مقتل واختفاء وتعذيب عشرات الآلاف من المعارضين السياسيين.
يوم رحل نيرودا، لم تكن الحركة النسائية قد انتشرت وترسخت في تشيلي كما حصل بعد سقوط الديكتاتورية العسكرية، ثم وصول المناضلة الاشتراكية ميشيل باشليه مرتين إلى رئاسة الجمهورية، وتشكيل الحكومة التشيلية الأخيرة بأغلبية من النساء.
هذه التطورات دفعت باتجاه مراجعة لحياة نيرودا الشخصية تحت مجهر جديد لم تخضع له في الماضي، خصوصاً بعد اعترافه باغتصاب فتاة عندما كان قنصلاً لبلاده في سيلان (سريلانكا)، وبعد انكشاف تفاصيل سلوكياته إزاء زوجته الأولى والابنة الوحيدة مالفا مارينا التي أنجبها وتخلى عن رعايتها، لأنها كانت مشوهة عند الولادة إلى أن توفيت في الثامنة من عمرها، ولم يحضر جنازتها في هولندا.
ولم تقف هذه المراجعة عند السيرة الذاتية لواحد من أهم الشعراء العالميين في كل العصور، بل تجاوزتها لتتناول بعضاً من قصائده الشهيرة التي رأى فيها نقاد شططاً ذكورياً وتحقيراً للمرأة، ودعت إلى إعادة النظر في الرمزية البارزة التي يحتلها ضمن المشهد الثقافي التشيلي «وإنزاله من علياء الانبهار بشعره الشاهق الذي أتاح له تجاوزات كثيرة في حياته، وبعد مماته، من غير ثواب أو عقاب»، كما تقول الباحثة الأكاديمية سوليداد فالابيا التي قادت حملة واسعة ضد إطلاق اسم نيرودا على مطار العاصمة التشيلية سانتياغو.
وكان نيرودا وصف في مذكراته التي صدرت بعد وفاته في مؤلفه الشهير بعنوان «أعترف أني عشت» اغتصابه لفتاة سيرلانكية من إثنية «تاميل» بقوله: «كان أشبه بلقاء بين رجل وتمثال جامد. بقيت طوال الوقت بلا حراك، تنظر بعينين فاغرتين إلى مكان بعيد كأنها تقول لي إنها تحتقرني». وقد أثارت إعادة قراءة هذا النص في السنوات الأخيرة موجة من الاستنكار في الأوساط السياسية التشيلية، على مختلف مشاربها، وبين بعض الأدباء والشعراء، دعت إلى قطع المساعدات الرسمية للمؤسسة التي تعنى بصون تراث الشاعر وإدارة المنازل الثلاثة التي كان سكنها في تشيلي، وتحولت فيما بعد إلى متاحف تستقبل سنوياً مئات الآلاف من الزوار.
ولم تقف الانتقادات عند سلوكيات نيرودا فحسب، بل شملت مواقف أترابه من الشعراء والأدباء، مثل غارسيا لوركا، وفيثنتي آلكسندريه، الحائز أيضاً عن «نوبل للآداب»، الذين رافقوه عن قرب خلال إقامته في مدريد وعاينوا تصرفاته تجاه ابنته المريضة من زوجته الهولندية، حيث كان يرفض رؤيتها أو العناية بها لكونها مشوهة، ويأبى أن يتقبل فكرة إنجابه لها، حتى أنه لم يحضر جنازتها عندما توفيت. وكان لوركا وآلكسندريه أشارا في مناسبات عدة إلى معاناة الشاعر من مرض ابنته، لكن دون انتقاده أو توجيه اللوم إليه.
لكن الكاتب فرناندو سايز، الذي يدير المؤسسة التي تحمل اسم الشاعر، وتواجه اليوم صعوبة كبيرة لمواصلة حفظ تراثه، يقول: «إن الحملة ضد نيرودا أخرجت الأمور عن سياقها الزمني، وتنظر إليها كما لو أنها حصلت البارحة. أعتقد أن ذلك الاعتراف كان مؤلماً جداً بالنسبة له، ومن المبالغة القول إنه كان يعاني من مشكلة في تعامله مع النساء».
كانت الروائية التشيلية المعروفة إيزابيل الليندي، دعت إلى عدم العرض لأعمال الشاعر وتشويهها، قائلة: «يعترف نيرودا أنه اغتصب امرأة، والحركة النسائية التشيلية تريد القضاء عليه. الرجل الخاطئ شيء، وكلنا خطأة، والعمل الأدبي شيء آخر».
ويخشى المشرفون على المؤسسة من أن هذه الحملة التي يشارك فيها عدد من الشخصيات النسائية التي تنتمي إلى الفريق السياسي نفسه، الذي كان نيرودا يناضل في صفوفه، ستحول دون إنجاز المتحف الكبير المخصص للشاعر الذي من المقرر افتتاحه العام المقبل بمناسبة الاحتفال بمرور خمسين عاماً على رحيل نيرودا، ومائة عام على صدور مجموعته الشعرية الرائعة «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة».

*الشرق الأوسط