رواية «شرق المتوسط» من الأعمال الروائية الأولى للروائي والباحث العربي عبد الرحمن منيف، (توفي 2004) الذي دشن جهده الروائي بروايته «الأشجار واغتيال مرزوق» والروائي منيف الذي جاء الأدبَ والثقافة، ولاسيما الرواية، من النفط، واقتصادياته تحديداً، التي درسها في يوغسلافيا السابقة، وجاء الأدبَ من السياسة والمنظمة الحزبية، فلم يجد نفسه في أحدهما، لا النفط ولا السياسة، لأن السياسة فن الممكن، وهو المبدئي الحر المتطابق مع فكره وذاته، آثر الارتماس في عوالم الأدب آخذاً بنصيحة صديقه الدبلوماسي والروائي اللبناني توفيق يوسف عواد (توفي 1989) الذي رأى فيه بذرة الأدب والكتابة، وحثه على الكتابة الأدبية فهي التي ستنتشل مجتمعاتنا العربية من وهدة التخلف والتعصب والاحتراب، أو تعمل على انتشالها، بخلاف السياسة التي عملت على تفرقة الناس وتعصبهم وتحزبهم، لذا- كما قلت آنفاً- قدم لنا باكورة عمله الروائي «الأشجار واغتيال مرزوق» سنة 1974.
رواية «شرق المتوسط» من أوائل الروايات التي تناولت قضية السجن السياسي في الوطن العربي، والسجين السياسي، وقضايا التعذيب وانتهاك كرامة الإنسان فيها، وتحول الإنسان إلى رقم، رقم بديل عن الاسم، اسم السجين السياسي، ومنيف لا يحدد بلداً تجري فيه حوادث روايته كي لا يكون ذلك سبباً في منع نشرها، أو منع دخولها البلد المعني، وقد قرأت منذ عقود، يوم صدرت الرواية في العراق سنة 1978، أنها نشرت في عديد البلدان العربية وتدوولت فيها، محاولة من هذه الحكومات تبرئة ذمتها، وأنها ليست المعنية والمقصودة، وإلا ما سمحت بنشرها أو تداولها، ووضع وزرها على بلدان أخر، أو بلد آخر!
مزاج الحاكم
رواية «شرق المتوسط» تذكرني برصيفتها «السيد الرئيس» للروائي الغواتيمالي ميكل آنخل استورياس، وقد طبعت عندنا للسبب الآنف ذكره، فهي ضاجة بالعنف والقسوة، ومحاولة سحق كرامة الإنسان وإرادته، ولنا في العراق إرث ضخم في هذا المجال، منها ما كتبه المعماري رفعة كامل الجادرجي وعقيلته بلقيس شرارة في «جدار بين ظلمتين» المكتوب وفق مفهوم التناص، والسرد متعدد الأصوات، فضلاً عن رواية «كوكب المسرات. سيرة ذاتية من يوميات سجين» للقاص والروائي العراقي محمد سعدون السباهي، مروراً برواية «القلعة الخامسة» للأديب العراقي المغترب فاضل العزاوي، كذلك ما كتبه الشاعر والمسرحي الراحل يوسف الصائغ، والروائي حميد المختار، ونصيف فلك في روايته (خضر قد والعصر الزيتوني).
في رواية «شرق المتوسط» محاولات لإسقاط السجين السياسي بالترهيب والترغيب، فهو سيظل ماكثاً في السجن سنوات ستطول، حتى لو أكمل مدة سجنه، فلا وجود للقانون في دول الراديكاليات الثورية، بل لمزاج الحاكم وخدمه، ومن خلال شعار: لا حرية لأعداء الشعب؟ يسحق الشعب وقادته ومفكروه وسياسيوه، الذين لا يتفقون مع الحاكم بأمره، وفي ظل شعارات (الشرعية الثورية!) تداس الشرعية الدستورية والقانونية، لذا فإن (رجب) الشخصية المركزية في رواية «شرق المتوسط» الذي يحكم عليه بالسجن مدة إحدى عشرة سنة، يتعرض لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، والترهيب والترغيب، سجانوه يساومونه بين أن يظل قابعاً في سجنه أو توقيعه ورقة تعهد، بعدم مزاولة أي نشاط سياسي، ويظل (رجب) متوهجاً أبياً رافضاً هذه المساومات كلها سنوات عدة، لكنه في ساعة يأس ونحس، في ساعة ضعف بشري، زاد في وطأته المرض الذي بدأ ينهش جسده، فيقرر تقديم هذه الورقة، لتكون هذه الحادثة فاصلة ممضة مؤلمة بين سلوكين، سلوك السجين الأبي الرافض لكل مغريات السجانين، والملتزم بنصيحة رفاقه، فضلاً عن وصية أمه التي تشحذ مقاومته، مؤكدة له: إن الدنيا حياة وموت يا رجب، وصيتي لك أن لا تضر أحداً.. تحمل يا ولدي، وسلوك الهزيمة والتخاذل الذي سقط في مستنقعه.
في هذه الحادثة التي كانت نهاية لعهد واثق بالذات وإيجابياتها، على الرغم من قسوة السجن وعذاباته، وبداية لزمن انهزامي متخاذل، وقد نضا عنه رفاقه احترامهم له، بل غضبوا عليه لأنهم رأوا فيه تنكراً لقضيتهم، حتى إنه بدأ يخشى أن يمضي ليلته الأخيرة هذه معهم، وقد علم زملاؤه بتخاذله وتقديمه ورقة الذل والهوان، خشي أن يجهز عليه (عصمت) وهو المعروف بصلابته ومبدأيته، مناجياً نفسه: لو أطبقت يدا عصمت حول رقبتي لخرجت الصرخات الخافتة من فمي مثل طائر مخنوق، سيدوم الأمر لحظة ثم تلتوي رقبتي وأسقط، يداه قويتان، إن إحساساً يخيم على جو السجن، بانتظار نهاية إنسان، هل تكون نهايتي؟».
عذاب الوجدان
عبد الرحمن منيف الذي يؤكد إيجابيات الحياة، والحاث على عناصر الخير والعدل والجمال فيها، وإن ساعات الخيبة والضعف إلى زوال، وأن لا بدّ من أن يعود المناضل السياسي، الذي يراه الناس قدوة لهم ومثالاً، لا بد لهذا الإنسان (رجب) من أن يعود إلى ذاته، وإلى المخبوء الطيب فيها، فيقرر هو الذي ذهب إلى فرنسا، مرسيليا تحديداً لغرض العلاج والتطبيب، ومحاولاً فضح الدولة القمعية، هناك في عوالم الحرية والصحافة الحرة، يقرر العودة لا بناء على رغبة شقيقته (أنيسة) التي اعتقل زوجها (حامد) الذي كفل (رجب) عند مغادرته بلده نحو الغرب، وقدم تعهداً بإحضاره، عند انتهاء المدة التي حددها له سجانوه، على الرغم من أنهم أطلقوا سراحه بعد تقديمه ورقة الذل تلك، وتعهده بترك العمل السياسي، فلا قانون يردع هؤلاء في دول الثوريات، بل قرر (رجب) العودة بناء على قرار اتخذه في دخيلته، ومناجاة مع ذاته المعذبة، أن يعود إلى بلده، وهو يعرف ما الذي ينتظره، ما الذي سيدفعه من ثمن باهظ، يقرر العودة تخلصاً من عذاب الضمير والوجدان، عذاب الضعف والخذلان، وتلك الورقة التي صيّرت حياته جحيماً، عاد، وعاد إليه سجانوه بحجة نشره وثائق تدين الدولة القمعية، يعود إليه زوار الفجر، بل كانوا زوار المساء ليقتادوه إلى السجن الذي سيموت فيه تحت وطأة التعذيب.
يحاول عبد الرحمن منيف تقبيح الضعف وخيانة النفس وزملاء السجن، فصور لنا نحن المتلقين والقراء معاناة (رجب) فجعله يدفع ضريبة باهظة، أماته تحت سياط جلاديه، كما أنه حاول تأكيد إنسانية الإنسان، وصور النبل والصلابة فيه، فجعل (رجب) ينتفض على واقعه السيئ، فيقرر العودة إلى وطنه، هو العارف بما ينتظره فيه!
(القدس العربي)