جاء إلى الميدان، من أحد الأزقة الجانبية. في الواحدة صباحًا، كان يجر خطواته مترنحًا تحت وطأة السكر.
كان يغني، لكنني لا أستطيع ـ من الطابق الخامس لفندق “اللوتس” ـ تمييز الأغنية التي يُسلي بها نفسه. ربما لخشونة ورداءة صوته، أو لأنه كان يتوقف أكثر مما يجب قبل أن يستأنف مقطعًا آخر من أغنيته المفضلة. في هدأة الليل يتضاعف الصوت لكنه يكتسي بظلال وأصداء شبحية تجعله مبهمًا.
أوراق وأكياس قليلة تتطاير حوله، هنا وهناك، مع هبة ريح الخريف. من النافذة المواربة أراه يترنح ويغني، قبل أن يفتح سحاب البنطلون ويبدأ في التبول على ساقي تمثال الزعيم الراحل.
قبل أن يرحل الزعيم، كان يكفي أن يُذكر اسمه في نكتة، كي يتحرك عشرات الجنود وتُفتح أبواب السجون. الآن يتبول هذا السكير على ساقيه وقدميه بكل أريحية، بعدما أصبح مجرد تمثال من الجرانيت.
لابد أن زجاجات البيرة التي عبّها كانت تضغط على مثانته وتدفعه إلى التبول، لكنه ظل يماطل تلك الرغبة حتى وصل إلى التمثال. لا يبدو خجلًا، بل يفعل ذلك بنشوة واستعراض. يدور حول التمثال من جهاته الأربع، وهو يتبول ويصنع كرابيج من بوله المتقطع ويجتهد كي يرتفع تيار البول إلى الساقين. من الصعب سماع صوت تبوله ـ من الطابق الخامس ـ لكن يمكن رؤية لمعة القطرات في العتمة المحيطة بالتمثال مثل ضباب أسود.
الجندي الذي يحرس الميدان، كان يجلس في كشك خشبي على الناصية، متدثرًا ببطانية رمادية. النوم الذي يغالبه أقوى من أن ينهض لردع هذا السفيه. على أية حال عندما ستشرق الشمس ستجفف كل ما ارتكبه من حماقات.
توهمت أنه كان يغني “هات القزازة”. لستُ متأكدًا. ربما كان يصرخ. لأن صوته ارتفع فجأة ثم انقطع. وضعتُ يدي وراء أذني وأصخت السمع. كان يُسب البلد كلها بألفاظ بذيئة. ثم بدأ في سب نفسه بالألفاظ ذاتها. هذه المرة كلماته كانت واضحة، وصداها يرن في الميدان كله.
مع علو صوته بالشتائم، ظهر من مكان ما، أربعة شباب. كانوا ـ على الأرجح ـ سكارى هم أيضًا. وقفوا أمامه وهم يضحكون بهيسترية. أخرج لهم عضوه من سحاب البنطلون المفتوح لكنهم لم يتوقفوا عن الضحك، وهو لم يتوقف عن السباب.
ثم راح يتلوى على الحصى والتراب المبلل بالبول. يتلوى أرضًا ويدور حول التمثال. أصبح صراخه أعلى، بكلمات مبهمة. أحدهم اقترب منه محاولًا إيقافه، فانكمش كالمصعوق وأخرج من جيب معطفه سكينًا لمع نصلها في الضوء الشاحب. تراجع الأربعة مذعورين، وفروا. جندي الحراسة تململ متأهبًا في الكشك الضيق.
إحدى النوافذ أضيئت فجأة، وسمعت صوت امرأة تنادي:
ـ “طلعه يا عبده”
لستُ متأكدًا، إذا ما كانت تقصده أم لا. انطفأ الضوء وغمر السكون كل شيء. الهواء الآتي من الميدان عابق برائحة الغبار ودخان المقاهى. كل المحال أُغلقت منذ العاشرة مساء وفقًا للتوقيت الشتوي. من الصعب رؤية ملامحه من هذه المسافة البعيدة. هل نام بعدما هده التعب والسكر؟
ما إن أغلقت نافذتي حتى سمعت نحيبه الشديد كأنه عواء. ثم رأيته يخلع حذاءه الرياضي ويلطم به وجهه ورأسه. لطمات سريعة وعنيفة مع الصراخ والعويل. كأنه انقسم إلى شخصين. شخص يضرب بعنف، وشخص يتألم ويبكي.
الشباب الأربعة ظهروا ثانية. هذه المرة كانوا قادمين من شارع آخر. وقفوا أمامه يشاهدون وصلة اللطم بالحذاء. لم يضحكوا. الطريقة التي كان يضرب بها نفسه ويصرخ، كانت تشعرني بالراحة والسكينة على نحو غامض. كأنني أتخلص من ثقل ما، وأنا أراه أمامي يتعذب ويُعذب نفسه.
ترك فردتي الحذاء وراح يلطم جسده بيديه.. من سرعة الضربات، كأنه يملك عدة أذرع تنهال ضربًا على جسده الذي ينكمش ويتلوى.
ليس معقولًا أن يضرب نفسه بكل هذه القسوة ولا يترك كدمات هنا وهناك. أخيرًا توقف، مع انصراف الشباب الأربعة. كأن هذه الفقرة لا تصبح مثيرة إلا في حضور الجمهور. حتمًا يدرك أن جمهورًا غامضًا يتابعه من وراء النوافذ المطلة على الميدان. ربما روح الزعيم الراحل تتابعه أيضًا.
جلس على مؤخرته وكأنه يقيم حوارًا مع أشباح غير مرئية. كان ينهض مستفزًا بجسده ثم يبصق في وجوه لا يراها أحد سواه. تخيلت أنه يبصق على شبح زوجته. هذا إذا كان له زوجة. ملابسه الرثة توحي أنه ليس سوى متشرد لا مأوى له. عاد الصوت النسائي جليًا في السكون:
ـ “طلعه يا عبده.. حرام عليك!”
ما الذي سيطلعه عبده؟ ما الذي سيفعله بعدما غنى وتبول وصرخ وضرب نفسه وبكى وبصق وتمرغ في التراب والحصى؟
لا جندي الحراسة نهض لإبعاده عن تمثال الزعيم الراحل، ولا المرأة التي تنادي على “عبده” هبطت وسحبته من يده!
في الرابعة صباحًا، رأيته نائمًا في وداعة بين قدمي الزعيم، ومغطى ببطانية رمادية. لابد أن جندي الحراسة غطاه بها. بعد حوالي ساعتين تناولتُ فطورًا خفيفًا وغادرت الفندق في اتجاه مجمع التحرير. سيارات قليلة تتقاطع في اتجاهات الميدان. كانت تدور حول تمثال الزعيم الراحل الذي يقف منتصبًا في الوسط. لا أثر للرجل. حينما حاذيت كشك الحراسة وجدته خاليًا، ليس في داخله سوى بطانية رمادية مكومة على الكرسي وبجوارها زجاجة مياه نصف مملوءة.
المصدر: موقع الكتابة