شريف الشافعي: سُلطة القصيدة..أم قصيدة السُّلطة؟ رهانات “ملتقى القاهرة للشعر”

0

مع اقتراب كل دورة من دورات “ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي”، تتجدد آمال القصيدة الجديدة الفاعلة، المتسلحة بشعريتها المجردة وحيويتها الكائنة ومراوغتها وانفلاتها من منظومة المركزيات البائدة والقوانين السائدة، في الوقت ذاته الذي تستعيد فيه الذاكرة آلامًا وخدوشًا شابت الدورات السابقة حدّ التجريح، الأمر الذي أعلى راية الضوضاء فوق صوت القيمة، وصدّر التراشق عنوانًا عريضًا للملتقى الذي لم ينجح بالقدر المنشود في مسعاه إلى إحداث مساحة من التوافق، وكاد يُلصق بالشعر البريء تهمة ملفقة، هو أنه فن الاشتباك والتنازع، وموائده حلبات تَصَارُعٍ وتطاحُن.
فيما تتصاعد الجهود المؤسسية المعلنة عن رغبتها في تفادي الأخطاء السابقة، واحتواء فكرة الشعر بوصفه سلطة مستقلة بحد ذاته، وإطلاق ملتقى منفتح على القصيدة الراهنة بتحررها من الأبوية وانصهارها في لحم الواقع وتمثلاتها الملموسة في حركة الحياة، خَطَفَ الأبصارَ ارتباكٌ أوّلي في التحضير لإقامة “ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي” تحت شعار “الشعر وثقافة العصر”. فبعد إعلان المجلس الأعلى للثقافة (الجهة المنظمة للملتقى) في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن إقامته الملتقى في الفترة ما بين 16 إلى 19 ديسمبر/كانون الأول 2019، تقرر منذ أيام قليلة (من دون تفسير السبب) تأجيله إلى الفترة ما بين 13 إلى 16 يناير/كانون الثاني 2020.

ضرورة الشعر
وإذا جرى في الاعتبار أن “ملتقى القاهرة الدولي الرابع للشعر” كان قد أقيم في الفترة ما بين 27 إلى 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، تحت شعار “ضرورة الشعر”، أي قبل انعقاد الدورة المقبلة بأكثر من ثلاث سنوات، فإن التذبذب في تحديد موعد الملتقى الخامس وتأخير الإعلان عنه إلى هذا الحد، يبدو أمرًا مثيرًا للدهشة. أما غموض أسباب التأجيل الفجائي، فإنه يفتح باب التكهنات والقيل والقال، ولعل أقرب الاحتمالات هو الأمل في تفادي اعتذارات الضيوف من الشعراء والنقاد المصريين والعرب، وذلك من واقع ما حدث في الدورة السابقة التي سمّاها البعض “دورة المعتذرين”. ولكن: هل يُعدّل مؤتمر مرموق موعده وبرنامجه في اللحظة الأخيرة، هكذا وفقًا لأجندات ضيوفه؟ ولماذا لا يحدد ملتقى دولي بهذا الحجم توقيت دوراته بدقة، قبل أشهر من انطلاقه، ضمانًا للتنظيم الجيد والإعداد الهادئ؟

وبالرجوع إلى الدورة السابقة في العام 2016، والتي حملتْ اسْمَي الشاعرين: محمود حسن إسماعيل، ومحمد عفيفى مطر، وفاز بجائزتها (100 ألف جنيه مصري) الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة (أحد شعراء جيل الستينات بمصر)، وكانت قد أقيمت في عهد وزير الثقافة السابق حلمي النمنم بمشاركة شعراء وأكاديميين من مصر و13 دولة عربية، فإن مشهد الاعتذارات المتكررة لم تكن له علاقة في المقام الأول بالتوقيت غير الملائم للضيوف، الذين أعلنوا موافقتهم المبدئية على المشاركة، وأدرجت أسماؤهم في البرنامج الرسمي المنشور بالفعل، ثم توالت قبيل افتتاح الملتقى بساعات قليلة الانسحابات من بعض المشاركين، ومنهم: اللبناني عباس بيضون، والبحريني قاسم حداد، وعدد من شعراء قصيدة النثر المصريين، وتنوعت وقتذاك الأسباب المعلنة لهذه الانسحابات، الهادفة إلى إحراج الملتقى بطبيعة الحال، ومنها: رفض ما تردد بشأن الاتفاق الضمني المسبق على منح جائزة الملتقى لشاعر مصري بعينه، والتعلل بأمور صحية (الاعتذارات الدبلوماسية)، وكذلك الاعتراض على عدم تمثيل “القصيدة الجديدة” تمثيلًا كافيًا لائقًا في جُملة فعاليات الملتقى.

دورة إبراهيم ناجي وبدر شاكر السياب
على أعتاب الدورة الخامسة المقبلة “دورة إبراهيم ناجي وبدر شاكر السياب”، التي تنظمها لجنة من المتخصصين والنقاد والشعراء من بينهم: محمد عبد المطلب (رئيس لجنة الشعر)، حسن طلب، أحمد سويلم، محمد سليمان، حسين القباحي، شعبان يوسف، عبد الناصر حسن، أسامة البحيري، أحمد عنتر مصطفى، وائل حسين، والتي ستُختتم بالإعلان عن اسم فائز جديد بـ”جائزة القاهرة للإبداع الشعري”، فإن القضايا الساخنة ذاتها المتعلقة بالملتقى تبدو جميعها مثارة وقائمة ومطروحة بقوة. وهي التي لا تقتصر على الإجراءات الإدارية والأمور التنظيمية، وإنما تصب في جوهر النظرة إلى الشعر ذاته، وتقدير المؤسسة الرسمية لهذا الفن، وللشعراء الذين يبدعونه، وتُبرز إلى أي مدى ترغب وزارة الثقافة في محو الصورة السلبية بشأن سياستها الانحيازية إزاء الشعر. تلك السياسة التي من إفرازاتها المباشرة عدم فوز شعراء قصيدة النثر بجوائز الدولة في الشعر، على سبيل المثال، وندرة اعتمادهم لتمثيل مصر في الفعاليات الدولية الخارجية، رغم إفساح المجال لهذه القصيدة ومبدعيها وتمكينهم “جزئيًّا” في بعض الفعاليات الرسمية الداخلية، كمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وملتقى القاهرة للشعر.

في مقدور منظّمي الدورة الخامسة للملتقى، العمل على مواصلة ما يمكن وصفه بالإصلاحات النوعية التي نبتت جذورها في الدورة السابقة، والنأي أكثر فأكثر عن الأخطاء الكارثية الفجة التي وصمت الدورات الثلاث الأولى، ومنها على سبيل المثال الهيمنة البطريركية لجيل الستينات وجماليات القصيدة التقليدية النسقية على الملتقى وأمسياته الشعرية ومحاوره وأطروحاته، وذلك بزعامة أحمد عبد المعطي حجازي مقرر لجنة الشعر السابق، الذي أطلق كتابه الهزلي المضحك ”القصيدة الخرساء” حول قصيدة النثر باعتبارها “قصيدة ناقصة”، بالتوازي مع انعقاد الدورة الثانية للملتقى في العام 2009، وهي الدورة التي فاز بجائزتها حجازي أيضًا، أو أنه بالأدق أهدى الجائزة إلى نفسه، إذ كان وقتها مقررًا للملتقى، ومقررًا للجنة الشعر المنظمة للملتقى. وقد تخطت هذه الواقعة حدود التصور من العبثية والاستخفاف بالعقل والمنطق، فضلًا عن مخالفة الأمانة والنزاهة مخالفة جسيمة.

لا تزال النظرة السائدة إلى الملتقى الشعري القاهري الأكبر، تراه منحازًا إلى الذائقة التقليدية والموروث الراسخ، في جوائزه على الأقل وتوجهاته المركزية المحورية، واعتماده على وجوه متكررة غير مواكبة لتطورات الحركة الشعرية، بما يوحي بمظلة كهنوتية وتكريس للانتفاعية والشللية وتمرير لأسماء معيّنة مرضيّ عنها إيديولوجيًّا وسياسيًّا وما إلى ذلك. إلى جانب مساحات غير قليلة من المجاملات والاعتبارات الشخصية لحساب شعراء، ونقاد أقل من المستوى، وهي الأمور التي تجعل تلك التوجهات الإصلاحية والتغييرات الجذرية من جانب إدارة الملتقى موضع تشكك من جانب المبدعين والنقاد المستقلين ومن أجيال الشباب، حتى من دون مراجعتها وتمحيصها ومحاولة التثبت من جديّتها.
لربما تسرّع بعض الشعراء المنسحبين من الدورة الماضية، التي حملت بالفعل شواهد إيجابية عديدة لإقامة ملتقى شعري جاد ومتوازن وغير إقصائي، لكن الحمولة السلبية للدورات الثلاث الأولى كان لها التأثير الأكبر في الشعراء الذين اندفعوا إلى مقاطعة الملتقى. أما هذه الشواهد التي أطلّت كجذور إيجابية في الدورة الرابعة، فمن بينها توجيه الدعوة إلى عشرات الأسماء من أنصار الكتابة الجديدة وقصيدة النثر، من أجيال متعاقبة (رفعت سلام، محمد فريد أبو سعدة، عباس بيضون، قاسم حداد، أحمد الشهاوي، أمجد ريان، علي منصور، إبراهيم داود، عاطف عبد العزيز، فتحي عبد السميع، ميسون صقر، مؤمن سمير، عماد غزالي، هبة عصام، خلود المعلا، عبد الرحمن مقلد). وقد شارك بعضهم بالفعل، وانسحب آخرون في اللحظات الأخيرة، وقد بلغت نسبة كُتّاب القصيدة الجديدة الذين أدرجت أسماؤهم في البرنامج قرابة الثلاثين من بين سبعين مشاركًا، وهي نسبة مرتفعة لم تحدث في الدورات الثلاث الأولى.

لا يزال الرهان معقودًا على الدورة الخامسة المقبلة لتحقيق مُنجز فعلي يُحتسب لإدارة الملتقى، وهذا الرهان مقترن بمحور السلطة (أحد نقاشات الملتقى المزمع) أكثر من غيره. بمعنى أنه إما أن يكون ملتقى لسلطة الشعر، أو ملتقى لشعر السلطة، هكذا على سبيل التعميم، إذ قادت غالبية التجارب إلى استحالة التوفيق بين المتضادات في قاعات الشعر الضيقة. هذا كله، بدوره، مشروط بإعلان الأسماء النهائية للمشاركين، وإلى أي تيارات ينتمون، ومعرفة المزيد من التفاصيل بشأن البرنامج، وآليات تطبيقه، وكيفية ارتقاء الفعاليات على الصعيد التنفيذي إلى مستوى الخطوط العريضة والمحاور التي جرى الإعلان عنها حتى هذه اللحظة، وهي عناوين مبشّرة نسبيًّا، قياسًا بالسابق والمتوقَّع. أما ذروة شجاعة منظّمي الملتقى، وحقيقة “تغيّرهم” فسوف تتكشف لحظة الإجابة عن السؤال الأصعب: إلى مَن ستذهب جائزة الملتقى؟ وهل تَجْسُر قصيدة النثر على مجرد الحلم بالفوز بها؟!
مثل هذه المناقشات، والمناوشات، والدوائر المتقاطعة، تبقى افتراضية، تهويمية، لحين إسدال الستار على “ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي” في 16 يناير/كانون الثاني المقبل، شأنها شأن هذه المعطيات “الورقية” الضخمة، التي تروّج من الآن لحدث شعري ونقدي غير مسبوق، من بين محاوره ومباحثه وجلساته التجديدية الطليعية: الشعر والواقع العربي، تحولات الشكل الشعري، الشعر والتكنولوجيا، الشعر والهوية المعاصرة، الشعر الرقمي والنشر الإلكتروني، تحركات الصورة الشعرية، شعرية الجسد في القصيدة الحديثة، إلى جانب المحور الفارق المؤثر: “الشعر والسلطة”.

المصدر: المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here