يتسلل الشاعر السوري الكردي عماد الدين موسى في ديوانه “كسماء أخيرة”، الصادر حديثاً عن دار “خطوط وظلال” (الأردن)، عبر الزجاج الشفاف والملون، وخلال الجدران والأسقف الصماء أيضاً، كشعاع ضوئي دافئ وخفي، ليحدث أثراً في الأعماق، كوخزات محرضة، ويعيد منح الأشياء والكائنات صوراً وهالات، على غير ما هي عليه في الطبيعة.
على امتداد صفحات ديوانه، التي تتجاوز المئة والعشرين، يحفر الشاعر المغترب، من منفاه الاختياري الأوروبي، مسارات شاقة للوصول إلى الدهشة المباغتة، كطفل يصرخ “لأجل لا شيء”. وبقدر ما يتسع جرحه مع طول المسافات التي يقطعها حائراً، تنزف قصائده دمعات لامعة وقطرات دماء حمراء ورسائل احتجاج هامسة.
الحياة في الشعر، هي ليست الحياة في النهار، ولا الإقامة في الليل، لكنها لحظات الانتظار والارتقاب المعلقة في الفضاء من غير جدوى، وحالات التأرجح الموحش المقلق بين ضفاف الألم المقيم وسراب الأمل الهارب من بين الأصابع. وفي هذه المتاهة التي لا تسمح بترويض الملل، لا معنى للعمر القصير غير أنه ذلك الوقت الضائع في معرفة الفرق الوهمي بين القبلة والقنبلة، وبين الرجوع إلى أرض الوطن والعودة إلى تراب القبر: “أيتها البلاد الواقفة على ربوة أو بركان/ …/ سنعود يا التراب/ لا بد أن نعود/ لكن دون أصابع تذكر”.
عالم موازٍ
لا يكتفي الشاعر بنثر معانيه الرافضة لكل صفات الجمود والتبلد والمرارة والعزلة من حوله على نحو سلبي، لكنه يسعى دائماً إلى تخليق الخصوبة وتوليد النبض في العالم الشعري الموازي، “بينما الأزهار تتساقط” في الخريف الحقيقي المحيط. هو يعي أن الأشياء بموسيقاها الهادئة إلى زوال حتمي، وكذلك مصير الكائن الذي بداخله. ويدرك أن الطفل العجوز سوف يغمض قلبه لا محالة، مثل وردة منهكة، لكن الذات الشاعرة لا تكف عن محاولات تجهيز هداياها الغضة لفجر مؤجل، قد يستيقظ: “ترى/ ما الذي سيفعله الفجر/ إن استيقظ غداً/ دون عصافير أو غصن؟”.
المكان، لدى عماد الدين موسى، هو رماد الآخرين، الغائبين أو المحتجبين أو المحترقين، بينما الذكرى شيء آخر: أرواحهم، التي لا تتلاشى، ولا تندثر في مخيلته الواعية، على الرغم مما يظل يعانيه من شعور بالافتقاد والتشرنق في الأفق البعيد: “أقف ويداي مسبلتان/ كمن يتهيأ لالتقاط صورة تذكارية/ لوحدته اللامتناهية”.
وإذا كانت الشعرية تكسو الوجود ملامح مغايرة، وتدفع فكرة المقاومة إلى حيز الإمكان، على عبثية هذه الفكرة، فإن التخييل بدوره قد يقود إلى قنص الحرية، بالتفاعل مع الطبيعة ومفرداتها أيضاً. هنا الإنسان أكبر من قاموسه الآدمي، فهو الشجرة والماء والفراشة والطائر والمطر: “خذ يدي أيها الطائر/ وامنحهما بعضاً من حرية جناحيك/ خذ فمي/ ولقنه ما تشاء من تغريداتك/ أيها الطائر: ليتني إلى حياة أخرى/ حياتك”.
لملمة الشظايا
تبدو القصيدة في ديوان “كسماء أخيرة” بناءً مقاماً على الشظايا الململمة: “لا بد من شظايا نلملمها”، على عكس كثير من النثرات الشعرية السائدة، التي تعكس بقسوة تفتت الأبنية وانهيار الأنساق وسيادة الهدم. ولعل العنوان المفتاحي الدال يشي بأن ثمة فرصة أخيرة لإيجاد كل شيء في هذا الكون، وإن كان سماءً عالية. ولهذا يحمل الشاعر حياته “التي في قفة كقط مدلل”، ويواصل نسج مستحيلاته المضنية “كمن يقف على أصابع قدميه/ أواصل الغناء/ بما تبقى لدي من صمت/ أو نصف صوت/ لئلا تترك أعشاشها السنونوات”.
متدثرة بعشقها، تقف الذات الشاعرة على الناصية، لترقب بلهفة الغيمة السائرة كقارب، فللينابيع سيرة أخرى ترويها القصيدة، وينبغي نشدانها في الغابات والصحراوات. وللموسيقى الصاعدة من الموج أن تظل تتذكر الفرح الزائل، والشمس المغبرة، والنجمة الشاردة، والقمر الخائف، والنور الخافت، وسيل الحنين الجارف، وأغنيات الحالم في أبد العتمة الجارحة: “في الأعالي/ نجمة صامتة/ النجمة التي لم يأكل القط لسانها/ التي كغيمة في أوان المطر”.
الحسي والصوفي
مثلما يكاد الشاعر يستغني عن الواقع الحسي الملموس، الذي يرفضه ويتمرد عليه، مكتفياً بالجزيرة التي تخترعها كلماته، فإنه يتخذ من النزعة التصوفية سبيلاً لإشراقات الحواس خارج نطاقاتها الاعتيادية ومجالاتها المألوفة، فالنظر مثلاً يكون قلبياً استبطانياً، لبلوغ الجوهر، ونبذ القشور والزيف: “كل طائر لا غصن له/ كل غصن لا شجرة له/ كل شجرة لا غابة لها/ كل غابة لا شمس لها/ كل شمس لا سماء لها/ كل سماء لا ناظر إليها/ كل ناظر لا عين له/ فلينظر… فلينظر بقلبه”.
ومن خلال الاستشفاف والحدس، ينجو الشاعر من ارتباك الفصول، ففي الروح ملتقى الأزمنة، ولا يصيبه الوداع في مقتل، فهو يحمل الأمكنة والأشخاص بداخله، ولا تربكه العثرات والسقطات الموجعة، فهو يزرع الأحلام في تربته “من لم يحلم/ كمن لا يولد”.
هذا التركيز في الرؤية والاستشعار، ينعكس بدوره على لغة الشاعر عماد الدين موسى المكثفة، وصوره الخاطفة، فهو يكتفي عادة بالقطرات، لكنها ذات حمولات وافية من المعاني العميقة والمشاهد المتحركة المتلاحقة، التي تجتمع فيها تفاصيل الحياة والالتقاطات النابعة من الطبيعة. والشاعر دائماً لا يصف معايناته ميكانيكياً كناقل، وإنما يتجاوز المحاكاة إلى التأمل، وطرح تصورات ومفاهيم مبتكرة حول سائر العلاقات بين الموجودات: “لا الربيع بأزهاره/ ولا الخريف بلا أزهاره أيضاً/ الطفل وهو ينظر/ في قارب حياته”.
لا يتغاضى الشاعر عن شرور العالم، ولا يتغافل عن حروبه وباروده ودماره، فالأرض ليست كروية فحسب، لكنها قنبلة موقوتة، والرصاصة الحبلى بماء الحقد اخترقت جسد الحرية غامرة الحياة كلها. لكن المحبة والتسامح بإمكانهما في بعض الأحيان جعل الرماد هبوباً خفيفاً، ومواجهة الغرق بالتحدي، وتغطية النهاية الوشيكة بألوان زاهية: “السفينة إن غرقت/ تناثرت الأرواح/ كعصافير بداية الربيع/ بشفاهها الملونة/ الأرواح التي بأجنحتها التسعة/ عصية على المياه”.
*اندبندنت