أحمد خميس
كاتب وناقد سوري، يعيش حاليا في ألمانيا، صدر له ثلاث روايات: “خنادق الحبّ”، “قيامة اليتامى” و”مسرح العمى“.
مجلة أوراق- العدد 17-18
أوراق القصة
استيقظتُ في تمام الثالثة والنصف، كان ضرسي يؤلمني لدرجة أنه خطر على بالي اقتلاعه بأية وسيلة، فتحتُ النافذة علّي استنشق بعض الهواء البارد، كان هدوء الثلج يخيّم على كل شيء، مانحاً الليل ضوءً فريداً رغم الظلام المطبق على الشرفات.
الأتراك لا يتركون مجالاً للضوء بأن يتلاعب بجيوبهم كيفما ما يشاء.
اعتمرتُ قبعة من الصوف أسود لونها، لبستُ على عجل قفازي ومعطفي الجلدي الطويل. وخرجتُ أحرثُ الثلج المتكدّس في الحديقة المقابلة لبيتي.
وضعتُ عود قرنفل صغير على سنّي الأمر الذي ساهم بتخفيف آلامي قليلاً.
كنتُ أحسبني بمفردي في (الشهيدلك) هذه الحديقة المطلة على نافذتي، وهي واحدة من ثلاث مئة حديقة في مدينة شانلي أورفا.
على يساري مباشرة كان ثمة رجل سبعيني يحمل مجرفة وفأساً، ينبش الثلج ويكوّمه بالجوار.
حاولتُ عدم استراق النظر إليه لكنني لم أفلح بذلك لاسيما وأني رحتُ اسمع نحيبه الذي بدا مخيفاً في أوله، التفتتُ إليه بكليتي؛ كان جاثياً على ركبتيه في عالم لا يرى فيه سواه، وجعل يضرب رأسه بشدة بكلتا يديه كأنما يحاول اقتلاع رأسه بما فيها.
بصراحة شعرتُ ببعض القلق، أخرجتُ هاتفي ورحت أستذكر رقم الشرطة ثلاثياً كان أم رباعياً، شيء ما بداخلي قال لي إن هذا الرجل يخفي سرّاً، ربما ارتكب جريمة ما، وها هو يخفي الجثة بدفنها في الحديقة.
لا أدري لماذا شعرتُ بحماقتي وسذاجة تلك الفكرة إلا أنها راودتني فعلاً!
يتصرف العاملون بميدان الصحة النفسية بأساليب تشبه أساليب المحققين ورجال الأمن أحياناً، يبنون تصوّراتهم على أسسٍ سطحية تحتمل كثيراً من التأويلات، يفسّرون الأمور بناءً على خبراتهم بالتعامل مع أناس مرّوا بتجارب مؤلمة الأمر الذي ينعكس على محاكماتهم للمواقف التي يمرّون بها فيحبكون قصصاً وروايات بأجزاء من الثانية ومن ثم يحطمونها وينسجون حكايات أخرى.
تراجعتُ عما كنتُ أفكر فيه حينما انتقل الرجل إلى مكان آخر من الحديقة وراح يحرث أيضاً دون أن يحمل الجثة التي كنت أتصورها.
ربما كان مستمتعاً بالثلج خطرت على بالي هذه الفكرة أيضاً.
(ربما) هذه الاحتمالية التي لا ينبثق عنها يقين جازم ترافقني دائماً، استخدمها حتى في حواراتي مع نفسي، ورسائلي الغرامية، وتغطيتي لملفات مرضايَ، وتشخيصي لحالاتهم؛ والسبب أني أتعامل مع إرادة بشرية لا تخضع لقوانين ثابتة.
من الباب الآخر للحديقة دخلتْ سيدة مسنة هي الأخرى رفقة شاب كأنه ابنها واحتضنا ذلك الرجل وتحدثا إليه قليلاً.
كان التعب مرسوماً في كل خلية من خلايا جسده، وملامح وجهه تشي بحزن أقل ما يمكنني القول عنه .. فظيعاً.
تسللت إليهم، وقفت بالقرب منهم، كانوا يتحدثون العربية! لهجة وسط سوريا (حماة على الأغلب).
-أتحتاجون للمساعدة يا خالتي؟ قلتُ وقد شعرتُ بتطفلي.
لم تجبني، زمّتْ شفتيها بحسرة أكثر منها تعجب واستهجان.
-أنا غسان طبيب نفسي أعمل في العيادات المهاجرة الخاصة باللاجئين.
– آه تذكرتك يا بني .. نعم رأيتك هناك أكثر من مرة.
– آمل لو أتمكن من تقديم بعض المساعدة، تقدّمتُ نحوها وأعطيتها بطاقتي التي تتضمن اسمي ورقمَ هاتفي، وبريدي الإلكتروني.
مشيتُ سالكاً الطريق المؤدية إلى بيتي حينما بدأت تثلج ثانية وبشكل أكثر غزارة هذه المرة.
لم أعد أشعر بألم أسناني، فإشارات الاستفهام التي كانت تملأ جمجمتي منعت دخول شيء آخر إلى رأسي.
صباح اليوم التالي وما إن لبستُ، ومشطتُ شعري وبينما أن واقف أراقب انعكاسي في المرآة لمحت صورة ذلك الرجل الأشيب وعينيه المتعبتين وملامحه التي تروي حكايات ألم مريرة. لمحته بمرآتي بالقرب مني يطلب النجدة من أحدهم، أظنه أنا.
وصلتُ المستوصف وكعادتي تشاجرتُ مع المدير الذي لا زال يصر على إبقاء عيادتي في قبو البناء المكون من ثلاثة أدوار بحجة الحفاظ على خصوصية الحالات والمراجعين.
ورغم أنني شرحتُ له ألف مرة أن السراديب، والأقبية تعيد مرضاي إلى أزمنة يهربون منها، إلى ذكريات أودت بهم إلى ما هم عليه الآن لكنه كان سميناً غبيّاً لا ينصتُ إلا لنفسه حاله كحال كل مدراء الأقسام الذين عملتُ معهم داخل سوريا وخارجها.
أنهيتُ عراكي الصباحي معه ونزلتُ إلى قبوي وطلبتُ من أم ياسر الدمشقية تزويدي بالنسكافيه كالعادة.
في تمام الحادية عشر إلا خمس دقائق تماماً سمعتُ جلبة في بهو القبو وصراخ رجل يشعر بالخوف أكثر من كونه غاضباً.
خرجتُ على عجالة، اقتربتُ منه، أحسستُ بالسعادة رغم كل شيء وهو شعور لم أعتد عليه في استقبال مرضاي.
لطالما تمنيت بأن تختفي هذه الأمراض حتى وإن أصبحتُ عاطلاً عن العمل نتيجة ذلك.
إنه رجل الحديقة وزوجته وابنه، تحدّثتُ إليه، وسألتُ عائلته الابتعاد.
كان يصرخ أن أخرجوني من هنا.
طلبتُ إلى أم ياسر أن تجلب لي مفتاح الباب الخلفي للعيادات والذي يفضي إلى مقهى صغير خال من الزبائن أغلب الأوقات.
اصطحبته إلى هناك، جلستُ، فجلس قبالتي.
كان جميلاً رغم ما فعلت به السنين، أنيقاً دون ثياب باهظة الثمن، حزينة عيناه رغم خلوهما من بريق دمع سيبكيه بعد قليل حسبما خيّل إلي.
– أنا الدكتور غسان يا عم، نحن في مأمن هنا، ثق بي.
نظر إلي وابتسم.
– مأمن!!
كان ينبغي أن أقول: نعم بكل تأكيد لكنني قلت ربما.
– وأنا أبو عبدالله من مدينة حماة.
– أتشرّف بلقائك يا عمي.
– حدثني أهلي بأنك طبيب نفسي وبأنني أحتاج إلى شخص مثلك لكي يريحني مما أنا فيه.
– سأبذل قصارى جهدي لكي تتخلص من هذه الأحمال التي تثقل كاهليك يا أبا عبدالله.
خاطبته باسمه محاولاً كسر جبال الجليد بيني وبينه.
خشيتُ من أن أقول له إنني رأيتك فجر اليوم وأنت تحفر أرض الحديقة.
لكنه فاجأني بأن قال:
أعتقد أننا التقينا قبل بضعة ساعات من الآن.
في الحديقة أجبته وقد بدأتُ أشعر أنه اطمأن لي أكثر.
حدثني عما يعانيه وعن مشاكله الجسدية التي تترافق مع مجموعة أعراض تتراوح بين الاكتئاب والقلق.
كنتُ أدون ملاحظاتي على كف يدي محاولاً انتهاز الفرصة لسؤاله عن السبب الذي دفعه للخروج من بيته في تلك الليلة الباردة والقيام بحفر أرضية الحديقة. لكنه فاجأني إذ قال إن لديه بعض الأشياء التي يرغب باطلاعي عليها.
أجبته بلهفة:
– بكل تأكيد تسعدني رؤية ذلك.
– إنها في بيتي يا دكتور بإمكانك زيارتي مساء إن شئت.
– عظيم… أشكرك على ثقتك بي يا أبا عبدالله …
وغادر بعد أن ألقى عليّ التحية بكثير من الاحترام، صافحني يداً بيد.
كانت يده خشنة وكبيرة.
في المساء وبعد أن اتصلت بابنه الذي كان ينتظرني أمام الحديقة توجهنا نحو بيتهم وشعور بالفضول والقلق يسيطر علي.
اقتحام هذه الكهوف لهؤلاء الرجال الذين انقرض الكثير منهم الآن ليس بالأمر البسيط.
أبو عبدالله رجل من زمن آخر، كان يحاول البقاء قوياً رغم الانهيارات الكبيرة في عينيه.
استقبلني من على الباب، كان يرتدي گلابية أبيض لونها رافعاً أكمامها قليلاً كما يحلو للسوريين فعله أحياناً.
كان متزناً وابتسامة لم أرها على وجهه في المرة الماضية تزيده وقاراً وهيبة.
– كيف حالك يا أبا عبدالله؟
نظر إلي وصمت لثوان وقال.
– تعال معي يا غسان ونهض سالكاً ممراً ضيقاً ينتهي بغرفة ذات باب خشبي أبيض.
دخلنا الغرفة المظلمة، وقفت قبالته. كانت گلابيته وشعره الأشيب يضيئان المكان بنور ليس بي عزم لوصفه.
جواد كالصافنات أملحاً يقف أمامي خلته مجنّحاً، سيطير ويحلق في البعيد لاحقاً بسلالته هناك حيث سليمان وأحصنته لكنه أعادني إليه لحظة إشعاله المصباح الكهربائي الأبيض متنحيّاً عني بضع خطوات.
احتجت لثوان حتى تتكيف حدقاتي مع الضوء، تمكنتُ من رؤية ما يرغب لي أن أراه.
وقفتُ مذهولاً وريح باردة خفيفة كخناجر من جليد راحت تهشّم عواطفي.
على الجدران حولي رسومات غريبة فهمت وما فهمت منها شيئاً.
رسمها ببخاخات على ما يبدو دون أطر وألوان غير الأسود والخلفية البيضاء.
شيء أشبه بالگرافيتي.
جثث مكدّسة فوق بعضها البعض، تلال وجبال وحقول من الموتى وغيوم تمطر رصاصاً والأرض مزروعة بالبنادق والحراب.
نظرتُ إليه، حاولت سؤاله عن هذا الذي أراه لكنني لم أستطع.
جلسَ على الأرض وأمسك جبهته بيده اليسرى.
في العام 1982 اقتحموا حي الحاضر.
كانت الجثث كبيادر القمح ليس لها آخر يا غسان.
نسوة يحتضن أطفالهن، شباب يظنون بأن أجسادهم ستمنع الرصاص من اختراق أجساد أمهاتهم.
قتلوا المدينة كلها… حتى القطط والكلاب الضالة لم تنجو من موتهم وحقدهم.
بأعجوبة بقيتُ على قيد الحياة، كنتُ أتنفس بصعوبة وسط تلك الأجساد الباردة.
منذ ست وثلاثين سنة يا بني وأنا أحفر لهم قبوراً ولم أتمكن من دفنهم إلى الآن.
كثيرة جداً، كثيرة هي الجثث.