في تعليقه الأول على الجدل المحتدم حول حصوله على جائزة “نوبل” للآداب، يصرح بيتر هاندكه: “لن أتحدث أبداً مرة أخرى مع وسائل الإعلام”. يقف الكاتب النمساوي أمام عدد من الصحافيين في بلدته الصغيرة، غريفين، رافضاً الإجابة على أسئلتهم حول مواقفه السياسية السابقة بشأن الحرب في يوغسلافيا. “بينما أقف في حديقة منزلي، يأتي خمسون صحافياً ليسألوني أسئلة مثلما تفعلون، وليس بينهم شخص واحد يبدو من حديثه إنه قد قرأ أياً من كتبي أو يعرف ما كتبته”.
بلا شك، يملك الرجل، كغيره، الحق في أن يقرر متى يتحدث إلى وسائل الإعلام ومتى يمتنع، لكن أسبابه هنا تبدو غير متسقة بعض الشيء. فالصحافي الذي جاء ليسأله عن الضجة التي ثارت لأسباب سياسية حول فوزة بجائزة “نوبل”، لا يجب بالضرورة أن يكون قد قرأ كتبه، بقدر ما يحتاج لأن يكون ملماً بمواقفه السياسية تلك. لكن هاندكه لا يرى ذلك بالطبع، فالكاتب لا يقف في موضع المساءلة أمام العامة والإعلام، بل العكس يخضع الصحافي لاختبار المعرفة أمام الكاتب. يمكن لهاندكه أن يتحدث في السياسة متى يشاء، ويتحدث لوسائل الإعلام ويهاجمها بشأن الحروب والمعارك والمذابح والوطنية و”بروباغندا المسلمين” والمؤسسات الدولية، ويشارك في مناسبات عامة، ويقرأ خطب التأبين لمجرمي الحرب، ويمكنه أيضاً أن يصبح فجأة مجرد كاتب، ويرغب فقط في الحديث عن الأدب.
“يسألونني أسئلة فقط عن رد فعل العالم، رد فعل على رد فعل، أنا كاتب، أنا أنتمي إلى تولستوي وهوميروس وثيربانتس. دعوني في سلام، ولا تسألوني أسئلة مثل هذه”. لا يبدو واضحاً ما يعنيه هاندكه هنا، لكن على الأقل نفهم أن مهنة الكتابة تبدو مبرراً كافياً لمنح صاحبها حصانة تجاه نوع معين من الأسئلة، فهو بالضرورة وريث لسلسلة طويلة من عظماء الأدب عبر التاريخ. من ناحيتها لم ترد إدارة “نوبل” على الأسئلة التي وجهت لها من وسائل الإعلام بشأن منح الجائزة لهاندكه، ولا يبدو أن الإدارة في حاجة للرد، أو في وضع مساءلة أمام أحد، فقرارتها نهائية، أما الرقابة عليها فمن الداخل فقط. وحجب الجائزة لنفسها العام الماضي، لأسباب أخلاقية، ليس سوى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فإدارة الجائزة ذات سلطة مطلقة.
في كل هذا، لا تبدو المشكلة هي إن كان منح الجائزة لهاندكه قراراً صحيحاً، أو إن كان يستحقها، بل في هذا الفصل التعسفي بين الأدبي والأخلاقي، الجمالي والسياسي، فالمدافعون عن إدارة الجائزة يجادلون بأنها جائزة في الأدب لا في الأخلاق، والأدب العظيم يبقى والمواقف الشخصية من الشأن العام فتتغير وتنسى مع الزمن، ويرتكن هاندكه نفسه إلى هذا حين يقول: أنا كاتب، فلا تسألوني هذه الأسئلة، اقرأوا كتبي وتعالوا نتكلم فقط عنها.
يبدو ذلك الفصل مستحيلاً في الواقع، وهاندكه كان أكثر من خرقه وتطاول عليه، مستخدماً موقعه العام كأحد أشهر كتاّب الألمانية وأوروبا، ليدلي بدلوه في شأن السياسة الدولية، ويأخذ جانب طرف ضد الآخر في صراعات أهلية مسلحة. ولا يبدو أي من هذا جديداً، فقبل وقت طويل، تنبه ماركس لوظائف مستويات متنوعة من عمليات الفصل والتقسيم في مجتمع رأسمالي، الفصل بين العامل وسلعته، بين الإنتاج وبين الاستهلاك، بين القيمة التبادلية والقيمة الاستخدامية. ففي كل واحدة من هذه الثنائيات تبدو التعمية على عمليات الاستغلال والقمع المستخدمة في عمليات الإنتاج، هي الهدف، والاغتراب أحد النتائج. تصل حنة آرندت، ومن بعدها باومان وغيرهم، إلى أن عمليات الفصل البيروقراطي بين المهمات والوظائف، وبين مستويات الأخلاقي والتقني بين العاطفي والإداري قد جعلت الهولوكوست ممكناً، وبمنتهى السهولة، فالسؤال لم يعد متعلقاً بالتبعات بل الكفاءة وبالدقة وبالنظام أو المهارة، أما المعايير فانتزع منها الأخلاقي بالكامل لصالح التقني والفني.
تتمتع الفنون وبينها الآداب بموقع استثنائي في تلك التقسيمة التعسفية والخطرة، فغير أنه الكاتب يحاسب داخلها ككاتب فقط ويظل تقييمه في حدود منتجه الأدبي، ففيها ينفصل الجمالي عن الأخلاقي بل يمنح أولوية عليه، فحسب تلك التقسيمة ينظر للأخلاق والصواب السياسي كقيود على الأبداع، ينبغي التحرر منها.
في اليوم الذي أعلن فيه هاندكه قطيعته النهائية مع الإعلام، أعلنت جائزة البوكر عن كسرها للقواعد، واختيارها لكاتبتين في نفس الوقت لنيل الجائزة مناصفة، مارغريت آتوود وبرناردين إيفاريستو. ويبدو ذلك كجائزة استثنائية للكتابة النسوية والأقليات، وتكريما للصواب السياسي، وتلك أسباب كافية للاحتجاج لدى البعض والاحتفاء لدى البعض الآخر. لكن معضلة الجمالي والأخلاقي تظل قائمة، فهل ما تكتبه آتوود وإيفاريستو أدب جيد؟ أو بالأحرى كيف يمكننا قياس جودة الأدب؟ ولا تخرج الإجابة في معظم الأحيان عن منطق دائري، فالأدب الجيد هو ما تعترف به المؤسسة كأدب جيد، دور النشر والإعلام والنقاد والأكاديميون المتخصصون ولجان الجوائز ومؤرخو الأدب. ويقودنا هذا إلى معضلة عصية على الحل، فالمؤسسة وفي مقدمتها الجوائز، سواء كانت “نوبل” بمذابحها أو “بوكر” النسوية، وباسم استقلالية القرار والتجرد، تبقى سلطتها مطلقة، وبلا إمكانية لمراجعتها، ولا قدرها لأحد على إرغامها حتى لتبرير قرارتها.
*المصدر: موقع المدن